الرئيسية كتبدفاعيات 28-الفصل الخامس: آراء علماء الدين عن التثليث

كتاب الله ذاته ونوع وحدنيته

آراء علماء الدين عن التثليث

عوض سمعان

الفصل الخامس: آراء علماء الدين عن التثليث

ذكرنا في فصل سابق، أن علماء المسلمين قد تجنبوا البحث في ذات اللّه، لأنهم اعتبروا البحث فيها كفراً أو إشراكاً، لكن لأنهم كانوا يعيشون مع المسيحيين، سواءً في بلاد العرب أو غيرها من البلدان، استطاعوا أن يطَّلِعوا على عقيدة التثليث المسيحية، ويقرأوا كتب المسيحيين عنها، وأن يذكروا بعد ذلك آراءهم الخاصة فيها، وفيما يلي أهم هذه الآراء والرد عليها:

  1. قال بعضهم: «كُفر النصارى لا يرجع إلى اعتقادهم بوجود ثلاثة قدماء، بل إلى اعتقادهم أن الثلاثة واحد في الرتبة والاستحقاق».

    الرد: يتضح من رأي هؤلاء العلماء، أنهم من الفريق الذي يعتقد أن صفات اللّه غير ذاتية، وأنها قديمة قدم ذاته (أو بتعبير آخر يعتقد بوجود ثلاثة قدماء ليسوا هم ذات اللّه، أي ثلاث صفات قديمة للّه، ليست هي عين ذاته) لأنهم يقولون إن الاعتقاد بثلاثة قدماء لا يُعتبر كفراً. ويتضح أيضاً من رأيهم هذا، أنهم لم يفهموا عقيدة التثليث فهماً صحيحاً، لأننا لا نعتقد بوجود ثلاثة قدماء، بل نعتقد بوجود قديم واحد، هو اللّه.

  2. واللّه كما نعتقد ليس مبهماً أو غامضاً، بل هو واضح أو معيّن، وتعيّنه أو أقانيمه، هم الآب والابن والروح القدس، ولذلك من البديهي أن يكونوا واحداً في الرتبة والاستحقاق، ولا إشراك أو كفر في ذلك، لأنهم ليسوا ذات اللّه وغيرها من الذوات، أو ذات اللّه وصفات صادرة منها، بل هم ذاته وحدها وبعينها.
  3. وقال بعض آخر: «جعل المسيحيون الذات الواحدة ثلاث صفات، وهذا ميل منهم إلى أن الصفات هي نفس الذات. لكن هذا لا يتفق مع قولهم إن القدماء ثلاثة، لأننا إذا قطعنا النظر عن الاتحاد، لزم أن يكون هناك أربعة هم: «الذات والوجود والعلم والحياة»، أو بتعبير آخر: «الذات والآب والابن والروح القدس».

    الرد: يتضح من رأي هؤلاء العلماء أنهم (على عكس إخوانهم السابق ذكرهم) يعتقدون أن صفات اللّه هي عين ذاته، لأنهم لا ينتقدون القول إن الصفات هي نفس الذات. كما يتضح منه أيضاً أنهم اطَّلعوا على كتب النساطرة دون غيرهم (والنساطرة جماعة من الهراطقة خرجوا على تعاليم الكتاب المقدس).

  4. ولذلك لم يفهموا عقيدة التثليث كما هي واردة في الكتاب المقدس، لأنه لا يقول إن الأقانيم صفات للّه، بل يقول إنهم عين ذاته، فاللّه ليس شيئاً والأقانيم هم شيء آخر، بل اللّه هو الأقانيم والأقانيم هم اللّه، لأنهم تعيُّن اللّه، وتعيّن اللّه هو عين جوهره، إذ أنه لا تركيب فيه على الإطلاق.
  5. وقال الإمام الغزالي، في كتابه الرد الجميل: «يعتقد النصارى أن ذات الباري واحدة في الجوهر، ولها اعتبارات. فإن اعتبر وجودها غير معلق على غيره تعالى، فذلك الوجود المطلق هو ما يسمونه بأقنوم الآب. وإن اعتبر وجودها معلقاً على وجود آخر، كالعلم المعلّق على وجود العالِم، فذلك الوجود المقيَّد هو ما يسمونه الابن أو الكلمة.
  6. وإن اعتبر وجودها معلقاً على أن عاقلية معقولة منه، فذلك الوجود المقيد أيضاً هو ما يسمونه بأقنوم الروح القدس، لأن ذات الباري معقولة منه. والحاصل من هذا التعبير الاصطلاحي أن الذات الإلهية واحدة في الجوهر، وإن تكن منعوتة بصفات الأقانيم».
  7. وقال الشيخ أبو الخير بن الطيب (في كتابه أصول الدين) بهذا المعنى تقريباً: «أقوال علماء النصارى تشهد بتوحيدهم، لأنهم يقولون إن الباري تعالى جوهر واحد موصوف بالكمال، وله ثلاث خواص ذاتية كشف المسيح القناع عنها، وهي الآب والابن والروح القدس، ويشيرون بالجوهر ذاته الذي يسمونه الباري ذا العقل المجرد إلى الآب، وبالجوهر نفسه الذي يسمونه العقل العاقل ذاته إلى الابن، وبالجوهر عينه الذي يسمونه ذا العقل المعقول من ذاته إلى الروح القدس. ويريدون بالجوهر هنا ما قام بنفسه مستغنياً عن الظروف».

    الرد: لقد صدق هذان العالمان في قولهما إننا نؤمن أن اللّه واحد، وإن ذاته واحدة في الجوهر، وإن المراد بالجوهر هنا هو القائم بذاته والمستغني عن الظروف. ولكن يبدو لي أنهما لم يطلعا على عقيدة التثليث كما هي معلنة في الكتاب المقدس، بل نقلا فقط أقوال بعض فلاسفة المسيحيين الذين كانوا يقتبسون آراء أرسطو في ذات اللّه،

  8. ويحاولون تطبيقها على هذه العقيدة. لأننا وإن كنا نؤمن أن لا إله إلا اللّه، وأنه لا تركيب فيه على الإطلاق، وليس لدينا مانع من القول إنه عقل وعاقل ومعقول، إلا أننا لا نؤمن أن الأقانيم هم اعتبارات أو خواص أو صفات، أو أن الآب وحده هو العقل المجرد، والابن وحده هو العقل العاقل، والروح القدس وحده هو العقل المعقول، لأن صفة العقل المجرد تختلف عن صفة العقل العاقل، وصفتي العقل المجرد والعقل العاقل تختلفان عن صفة العقل المعقول.
  9. وإذا أسندنا إلى أقنوم صفة تختلف عن الصفة التي أسندناها إلى غيره، نكون قد جعلنا اللّه مكوَّناً من أقانيم مختلفة، وتبعاً لذلك يكون مركّباً، والحال أنه بأقانيمه ليس مركباً بل هو واحد بوحدانية لا تركيب فيها على الإطلاق، وأن صفات كل أقنوم هي بعينها صفات الأقنوم الآخر، وذلك لوحدانية جوهرهم.
  10. ومع ذلك فإن القول بأن اللّه عقل وعاقل ومعقول، لإثبات كماله المطلق واستغنائه بذاته (كما يرى الفلاسفة والعلماء، على اختلاف الأديان التي ينتمون إليها) يؤدي حتماً إلى الاعتقاد بأن وحدانية اللّه مع عدم وجود تركيب فيها، هي وحدانية جامعة مانعة. وهذا دليل غير مباشر على أن عقيدة التثليث تتوافق مع كمال اللّه كل التوافق.
  11. وقال القاضي أبو بكر محمد بن الطيب المعروف بالباقلاني في كتابه «الطمس في القواعد الخمس» : «إذا أنعمنا النظر في قول النصارى إن اللّه جوهر واحد وثلاثة أقانيم، لا نجد بينهم وبيننا اختلافاً إلا في اللفظ فقط. فهم يقولون إنه جوهر، ولكن ليس كالجواهر المخلوقة، ويريدون بذلك أنه قائم بذاته، والمعنى صحيح ولكن العبارة فاسدة».

    وقال القاضي أبو عبداللّه الحسين (في كتابه أدب الجدل): «إن سائر الأمم تقيس القدير سبحانه وتعالى على الشاهد، في جميع ما يثبتونه له من وحدانية وصفات. فلو أن قائلاً قال: لا يُقاس الباري على أحدنا في الشواهد لأنه قديم ونحن محدثون، ونحن أجسام وهو غير جسم (وبناء على منطقه لا يجوز إسناد القدرة إلى اللّه، بدعوى أن القدرة صفة من صفاتنا) لكان كلاماً فاسداً. وكذلك النصارى يقيسون القديم على المحدث في كونه تعالى جوهراً، بمعنى أنه قائم بنفسه (وإن كان الجوهر في الشاهد محدثاً حاملاً للعرض). وإن كان ذلك كذلك، علمنا أن القياس صحيح من جهة واحدة ومعنى واحد، وإن افترق من وجوه أخرى».

    وقال الامام جعفر بن محمد الأشعبي في كتابه «العلم الإلهي» : «قد تبيَّن أن المحرك الأول، أول على الإطلاق، فهو إذن علة الموجودات كلها. وفي هذه الحالة يكون أحد اثنين: إما جوهراً أو عرضاً. ومحال أن يكون عرضاً، لأن الجوهر علة وجود العرض، واللّه علة وجود كل شيء، ولولا الجوهر لما وُجد العرض. لذلك يتعين أن يكون اللّه جوهراً، أو شيئاً أشرف من الجوهر، أو جوهراً خاصاً، أو ذاتاً أو ما شئت فسمّه، إذ لا فرق في اللفظ مع سلامة المعنى» (عن نسخة أكسفورد سنة ١٠٧٢، التي نشرها الأب لويس شيخو اليسوعي في كتاب مقالات دينية قديمة ص١٢٧، والقس بولس سباط في كتابه المشرع ص ٢٨).

    وقال ابن سينا: «معنى كون اللّه جوهراً، أنه الموجود لا في موضوع، والموجود ليس بجنس» وقال أيضاً: «الجوهرية ليست من المقومات لأنها عبارة عن عدم الحاجة إلى الموضوع». (تهافت الفلاسفة ص ١٦٢ ولباب الاشارات ص ٨٧).

    الرد: حقاً إننا نعتقد أن اللّه جوهر واحد وثلاثة أقانيم، لكن لا خطأ في القول إنه جوهر، لأن كلمة «الجوهر» تُطلق على اللامتناهي باعتبار يختلف عن الذي تُطلق به على المتناهي، إذ يراد بها في الحالة الأولى «القائم بذاته» فقد شهد كثير من علماء المسلمين وفلاسفتهم، أنه لا مانع من إطلاق كلمة «جوهر» على اللّه بالمعنى المذكور. ولذلك فلا مجال للاعتراض على عقيدة التثليث، ولا مجال للظن بأن هناك فساداً في عبارتها أو أسلوبها.

  12. وقال أبو هزيل بن العلاّف من كبار رجال المعتزلة: «أقانيم النصارى هي عين الصفات عند بعض الفرق الإسلامية». وقال الأستاذ عباس محمود العقاد بهذا المعنى تقريباً: «الشأن في تعدد الأقانيم كالشأن في تعدد الصفات عند بعض المفسّرين».

    الرد: الأقانيم ليسوا صفات اللّه، بل هم عين ذاته. ومع كلٍ فإن اتصاف اللّه بصفات أزلاً، يدل على أن وحدانيته هي وحدانية جامعة مانعة، أو بتعبير آخر على أنه ليس أقنوماً واحداً بل أقانيم، الأمر الذي يدل بطريق غير مباشر، على أن عقيدة التثليث تتوافق مع كمال اللّه.

  13. وقال ابن رشد ما ملخصه: «النصارى لا يرون أن الأقانيم صفات زائدة عن الذات، وإنما هي عندهم كثيرة بالقوة لا بالفعل. ولذلك يقولون إن اللّه ثلاثة وواحد، أي واحد بالفعل وثلاثة بالقوة».

    الرد: حقاً إننا نؤمن أن اللّه ثلاثة وواحد، كما نؤمن أنه واحد وثلاثة، لأن الأقانيم ليسوا زائدين عن ذاته، بل هم عين ذاته. ونؤمن أيضاً أنهم ثلاثة بالقوة وواحد بالفعل، على اعتبار أنه لا انفصال لأحدهم عن الآخر، ولكنهم ليسوا صفات اللّه، بل هم تعينه الخاص الذي لولاه لكان مجرداً من الصفات، بل ولكان أقرب إلى العدم منه إلى الكائن الحقيقي.

  14. روى ابن حزم عن ابن الراوندي أن النظَّام، أحد فلاسفة المسلمين المشهورين قد وضع كتاباً في «تفضيل التثليث على التوحيد» (ابراهيم بن سيار النظّام ص ٧١) – وقد علق ابن حزم على هذا الكتاب بالقول: «إن السبب الذي دعا النظام إلى كتابته، يرجع إلى أنه كان يعشق فتى مسيحياً».
  15. وهذا كما اعتقد، سبب لا نصيب له من الصواب، وذلك للسببين الآتيين: (أ) إن النظّام كان من أعظم المسلمين حكمة وعلماً وصراحة، كما كان من أكثرهم دراية بالحقائق الإسلامية، وأشدهم دفاعاً عنها. (ب) إن من يعشق شخصاً يمدح جماله لا الدين الذي ينتمي إليه،
  16. لأن العاشق والمعشوق لا يهمهما من دين أحدهما شيئاً. أما السبب الذي دفع النظّام إلى كتابة هذا الكتاب فيرجع،كما أعتقد، إلى أنه بعدما أعلن أن اللّه لا يمكن أن يتصف بالإرادة أو العلم أو الاختيار، لتعارض الاتصاف بها مع الوحدانية المطلقة، التي كانت تُسند إليه تعالى، شقَّ على نفسه أن يعتبر اللّه مجرداً من الصفات اللازمة للذاتية الكاملة، ولذلك أدرك أن وحدانية اللّه، لا بد أن تكون وحدانية جامعة مانعة، أو بحسب الاصطلاح المسيحي ليست أقنوماً واحداً بل أقانيم.

    الرد: لا شك عندي أن ابن الراوندي قد أخطأ في تعبيره، عن موضوع الكتاب الذي وضعه النظّام، لأن التثليث ليس أفضل من التوحيد، كما أن التوحيد ليس افضل من التثليث، لأن التثليث هو التوحيد مفصلاً، والتوحيد هو التثليث مجملاً. فالآب والابن والروح القدس هم اللّه الذي لا شريك له، واللّه الذي لا شريك له هو الآب والابن والروح القدس. أو بتعبير آخر، لأن التوحيد هو اللّه جوهراً، هو اللّه معيّناً، وتعين اللّه وجوهره واحد، لأن اللاهوت هو اللّه، واللّه هو اللاهوت.

  17. قال بعض العلماء: «لا مخالف في مسألة توحيد واجب الوجود إلا التثنويّة (الذين يؤمنون بوجود إلهين، أحدهما للخير والآخر للشر) دون النصارى» .

    الرد. وهذا هو عين الحق، لأننا نؤمن أن الأقانيم هم ذات اللّه الذي لا شريك له، ونؤمن أيضاً أنه هو الذي خلق العالم بمفرده، وأنه هو الذي يعتني به بمفرده، أما من جهة الشر فنؤمن أنه لم يُخلق بواسطة إله ما، بل إنه من عملنا نحن، فقد أتيناه بمحض إرادتنا عندما انحرفنا عنه تعالى.

  18. أخيراً قال الأستاذ عباس محمود العقاد، في شرحه لاعتقادنا في ذات اللّه: «إن الأقانيم جوهر واحد، وإن الكلمة والآب وجود واحد، وإنك حين تقول «الآب» لا تدل على ذات منفصلة عن «الابن» لأنه لا انفصال ولا تركيب في الذات الإلهية» .

    الرد: لقد عرف الأستاذ العقاد اعتقادنا في ذات اللّه حق المعرفة، فنحن نؤمن حقاً أن الأقانيم جوهر واحد، وأن الآب والابن والروح القدس معاً هم وجود واحد، وأنه لا انفصال لأحدهم عن الآخر على الإطلاق، لأنهم ذات اللّه، الذي لا تركيب فيه بوجه من الوجوه.

هذه هي أقوال فلاسفة المسلمين وعلماء الدين والكتّاب بينهم، عن عقيدة التثليث، وهي في جملتها تدل على أن هذه العقيدة لا تتعارض مع وحدانية اللّه، وما دامت لا تتعارض معها، فإنها تتوافق معها.

نشر بتصريح من نداء الرجاء

https://call-of-hope.com

You may also like