الرئيسية كتبدفاعيات 27-الفصل الرابع: روح القدس، وصفاته وأعماله

كتاب الله ذاته ونوع وحدانيته

 روح القدس، وصفاته وأعماله

عوض سمعان

الفصل الرابع: روح القدس، وصفاته وأعماله

جاء في سورة الإسراء ١٧: ٨٥ «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي». وبالتأمل في هذه الآية، يتضح لنا أنها تنكر على البشر جميعاً إمكانية معرفة الروح. فإذا تأملنا من وجهة نظر الكتاب المقدس في الآيات القرآنية التي ورد بها شيء عن عمل الروح، استنتجنا أنه هو «الروح القدس» الذي هو اللّه أو أقنوم من أقانيم اللّه.

وإذا كان السبب في عدم إمكانية معرفة ماهية الروح، راجعاً إلى كونه هو «الروح القدس»، الذي يؤمن المسيحيون أنه أحد أقانيم اللاهوت، فان القرآن يكون متفقاً مع الكتاب المقدس على عدم إمكانية معرفة ماهيته، لأن الكتاب المقدس يعلن أن الأقانيم لكونهم ذات اللّه، لا يمكن للبشر أن يعرفوا ماهيتهم. فقد قال: «وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ ٱلابْنَ إِلاّ ٱلآبُ، وَلا أَحَدٌ يَعْرِفُ ٱلآبَ إِلاّ ٱلابْنُ» (متى ١١: ٢٧). وعن الروح القدس قال: «مَنْ قَاسَ رُوحَ ٱلرَّبِّ، وَمَنْ مُشِيرُهُ يُعَلِّمُهُ؟» (إشعياء ٤٠: ١٣).

ومن أعمال «روح القدس»:

  1. بعث الحياة: جاء في سورة الحِجْر ١٥: ٢٩ عن خلق اللّه لآدم «فَإِذَا سَّوَيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ»، وجاء في السجدة ٣٢: ٩ «ثُمَّ سَّوَاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ». فيكون روح اللّه هو الذي بعث الحياة في آدم، فجعله إنساناً حياً، بعد أن كان تراباً لا حياة فيه.
  2. تكوين جسد المسيح: جاء في الأنبياء ٢١: ٩١ «وَٱلَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا». فيكون روح اللّه هو الذي قام أيضاً بتكوين ناسوت المسيح في بطن العذراء.

    والناسوت مصدر على وزن ملكوت ورحموت (مختار الصحاح ص ٦٣٣، ص ٢٣٨)، ويُراد به الطبيعة الإنسانية على وجه العموم. ولما كان الانسان قائماً بجسد ونفس وروح، لذلك لا يُقصد بالناسوت طبيعة الجسد وحدها، بل وطبيعتا النفس والروح أيضاً معها.

  3. التأييد: جاء في البقرة ٢: ٨٧ «وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ». وفي المجادلة ٥٨: ٢٢ «أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ». فيكون الروح القدس هو الذي كان يؤيد المسيح، ويؤيد جميع المؤمنين.

    ويؤمن المسيحيون أن السيد المسيح، من حيث كونه «الابن الأزلي» ليس في حاجة إلى من يؤيده، لأنه من هذه الناحية هو الذي يؤيد ويعضد. ولكن من حيث كونه «ابن الانسان» يحتاج إلى ما يحتاج إليه الانسان من تأييد وتعضيد، إلا فيما يتعلق بحياة السلوك بالكمال، لأنه كان معصوماً من الخطيئة عصمة لا حد لها، ليس فقط بسبب ولادته من عذراء بقوة الروح القدس، وما ترتب على ذلك من عدم اتخاذه طبيعة خاطئة مثل طبيعة البشر، بل أيضاً بسبب كماله الذاتي الذي لازمه كل الملازمة طوال حياته على الأرض، كما لازمه منذ الأزل قبلها، ويلازمه إلى الأبد بعدها.

مما تقدم يتضح لنا أن القرآن، وإن كان لم يذكر أن روح القدس، أو روح اللّه، هو اللّه، إلا أنه يسند إليه أعمالاً تدل في نظر الكتاب المقدس على أنه هو اللّه أو أقنوم من أقانيمه، وذلك للأسباب الآتية:

  1. بعث الحياة هو من عمل اللّه وحده، لأن كل ما عداه مخلوق، والمخلوق لا يبعث الحياة إلى أحد، لأن هذا العمل يتطلب من القائم به أن تكون له حياة في ذاته، وليس هناك من له حياة في ذاته سوى اللّه (أيوب ٣٣: ٤).

    قال تفسير الجلالين: « ونفخت فيه من روحي» أي أجريت فيه من روحي، وإضافة الروح إليه تشريف لآدم (ج ١ ص ٣٧٦)، ولكنه لم يذكر من هو هذا الروح، هل هو اللّه، أم هو كائن غير اللّه.

  2. تكوين جسد المسيح في بطن العذراء عمل لا يستطيع القيام به إلاّ اللّه وحده، لأن هذا العمل يشبه الخلق تمام الشبه، إذ يتطلب من القائم به أن تكون له حياة في ذاته، وليس هناك من له حياة في ذاته سوى اللّه، كما ذكرنا فيما سلف.

    وقال الإمام البيضاوي عن تكوين جسد المسيح، إنه «من الروح الذي بأمر اللّه وحده، أو من جهة روحه جبريل» (تفسيره ص ٤٢٦). وقال الزمخشري: «يجوز أن يكون المراد جعلنا النفخ في مريم من جهة روحنا وهو جبريل، لأنه نفخ في جيب درعها (أي قميصها) فوصل النفخ إلى جوفها» (ج ١ ص ٥٢).

  3. ولكن من وجهة نظر الكتاب المقدس نفخة الملاك، لا يمكن أن تكون إنساناً ذا نفس وروح وجسد، لأن هذا العمل كما ذكرنا لا يفرق شيئاً عن الخلق، والملاك مخلوق، والمخلوق لا يخلق. لكن إن كان اللّه هو الذي نفخ فيها من روحه، بمعنى من ذاته، أو بحسب تعبير الكتاب المقدس، حل بروحه عليها، لأمكن في هذه الحالة أن يتكون جسد المسيح ونفسه وروحه في العذراء، لأن «روح اللّه» بمعنى ذات اللّه (أو أقنوم من أقانيم اللّه)، هو قادر على كل شيء ولا يعسر عليه أمر.
  4. التأييد هو من عمل اللّه وحده، لأن كل مخلوق محدود، وكل محدود يحتاج إلى تأييد، ومن هو محتاج إلى تأييد لا يستطيع أن يؤيد غيره، لا سيما إذا كان غيره هم المؤمنون، لأن هؤلاء كثيرون وموجودون في جهات متباعدة، ويحتاجون إلى التأييد والتعضيد كل حين في وقت واحد، ولذلك فاللّه وحده هو الذي يستطيع القيام بهذه المهمة لأنه وحده الموجود في كل زمان ومكان، ولا حدَّ لقدرته.

أما الإمام البيضاوي، فقال عن روح القدس الذي كان يؤيد المسيح إنه «روح عيسى» أو «جبريل» أو «الكلام الذي يحيا به الدين أو النفس حياة أبدية ويطهر من الآثام» (تفسيره ج ١ ص ١٧٤). وقال عن الروح الذي يؤيد المؤمنين إنه «نور القلب» أو «الإيمان» أو «النصر على العدو» أو «الضمير» (تفسيره ص ٧٥٣). لكن من وجهة نظر الكتاب المقدس أقول إن هذه الأشياء ليست هي ذات روح اللّه، بل هي مجرد وسائل، والوسائل لا تستطيع أن تعمل عملاً إلا بمعونة اللّه، ولذلك يكون اللّه وحده هو الذي يؤيد.

فضلاً عن ذلك، فإنه يمكن أن يستنتج من اقوال بعض علماء الدين والفلسفة أن «الروح» أو «روح القدس»، هو «اللّه»، أو بحسب الاصطلاح المسيحي هو أقنوم من أقانيمه، كما يتبين مما يلي:

  1. قال عبد الكريم الجبلي: «روح القدس غير مخلوق». وغير المخلوق أزلي، والأزلي هو اللّه دون سواه.
  2. قال الإمام الرازي إن الروح تقصر عن معرفته عقول الخلق. وقال الزمخشري إنه لا يعلم كنه الروح إلا اللّه. وقال الإمام البيضاوي إن اللّه استأثر بعلم الروح. وقال المشير أحمد عزت باشا: «العجز عن درك الروح إدراك، والبحث في كنه ذات اللّه إشراك». وهذه الأقوال تدل على أن الروح هو اللّه، لأنه لو كان غير ذلك لكان محدوداً، ولكان تبعاً لذلك مدركاً ومعروفاً، ولو إلى حد ما.
  3. وقال السيد محمد الحريري البيومي: «روح القدس هو روح الأرواح، وهو المنزَّه عن الدخول تحت حيطة (كن). فلا يجوز أن يُقال فيه إنه مخلوق، لأنه وجه خاص من وجوه الحق، قام الوجود بذلك الوجه. فهو روح لا كالأرواح، لأنه روح اللّه، وهو المنفوخ منه في آدم، فروح آدم مخلوق، وروح اللّه غير مخلوق، وذلك الروح هو المعبّر عنه بالوجه الإلهي في المخلوقات فأينما تولّوا فثمَّ وجه اللّه». ويستنتج من ذلك أن روح اللّه لا ينفصل عن اللّه.

أما المفسرون الذين يعتقدون أن روح القدس مخلوق فقد ذهبوا في أمره مذاهب كثيرة، بحسب الآيات القرآنية التي ورد ذكره فيها، إذ علاوة على ما قيل عنه فيما سلف، قالوا إنه ملك له ١١ ألف جناح وألف وجه يسبح اللّه إلى يوم القيامة (هامش السندي على صحيح البخاري ج ٤ ص ١٧٣). أو هو ملك في السماء الرابعة أعظم من في السموات، يسبح اللّه كل يوم ١٢ ألف تسبحة، يخلق اللّه من كل تسبحة ملكاً من الملائكة (الطبري ج ٣٠ ص ١٣)،

أو هو خلق أعظم من الملائكة (البيضاوي ج ١ ص ٣٨١)، أو هو أعظم خلقاً من الملائكة وأشرف منهم، وأقرب من رب العالمين (الكشاف ج ٤ ص ٦٩١)، أو هم حفظة على الملائكة (الكشاف ج ٢ ص ٤٨٨)، أو هو أول في درجة نزول الأنوار من جلال اللّه، ومنه تتشعب إلى أرواح سائر الملائكة والبشر (على هامش الطبري ج ٢٩ ص ٤٢)، أو هو الوحي أو القرآن (البيضاوي ج ١ ص ٥٢١)، أو الإنجيل (الكشاف ج ١ ص ١٦٢) أو هو سبب الحياة (الرازي ج ٥ ص ٤٤٦)، أو هو الاسم الأعظم الذي كان يحيي عيسى الموتى بذكره (الكشاف ج ١ ص ١٦٢).

وإذا تأملنا هذه الآراء وجدنا أنها مع تنوعها تدل بصفة عامة على أن شخصية الروح تفوق في عظمتها كل شخصية في الوجود. أما المسيحيون فيعتقدون أن روح اللّه هو اللّه، أو أقنوم من أقانيم اللّه، لأنه فضلاً عن شهادة الكتاب المقدس بهذه الحقيقة، فان روح الكائن إن لم يكن هو ذاته، فانه لا ينفصل عن ذاته. وبما أن اللّه لا تركيب فيه، يكون روحه هو ذاته أو أقنوماً من أقانيمه.

أخيراً نقول، وإن كنا نرى في القرآن عبارات يمكن أن يُستنتج منها أنه يتفق إلى حد ما مع الكتاب المقدس، من جهة «الكلمة» و «الروح»، لكن لا نرى فيه عبارة واحده تدل على أنه يتفق مع الكتاب المقدس على أن اللّه هو «الآب والابن والروح القدس». ومع كلٍ فإنه بإسناده الأعمال والصفات والعلاقات في كثير من آياته إلى اللّه، نستنتج أنه لا يعتبر وحدانيته وحدانية مجردة أو مطلقة، بل يعتبرها وحدانية جامعة مانعة، أو كما نقول نحن: وحدانية متميزة بتعينات أو أقانيم. ولذلك ليس هناك مجال للظن بأنه يشير بالنقد إلى عقيدة التثليث المسيحية، كما ذكرنا في فاتحة هذا الباب.

نشر بتصريح من نداء الرجاء

https://call-of-hope.com

You may also like