الرئيسية كتبدفاعيات 20-الفصل الثاني: الاعتراضات الدينية والرد عليها

كتاب الله ذاته ونوع وحدانيته

الاعتراضات الدينية والرد عليها

عوض سمعان

الفصل الثاني: الاعتراضات الدينية والرد عليها

اعتراض (١): «قول السيد المسيح إن الآب أرسل الابن إلى العالم (يوحنا ٥: ٣٧) يدل على أن الآب أسمى من الابن مقاماً».

الرد: مجيء الابن إلى العالم ليس معناه تحرّكه من مكان إلى مكان، بل مجرد ظهوره في العالم بهيئة واضحة، لأن اللاهوت مُنَزَّه في ذاته عن التحيُّز بمكان، وبالتبعية من الانتقال من مكان إلى مكان. ولم يكن مجيء الابن بإرادة الآب مستقلة عن إرادة الابن، بل كان بإرادتهما وإرادة الروح القدس معاً – فقد قال المسيح: «مِنْ عِنْدِ ٱللّٰهِ خَرَجْتُ» (يوحنا ١٦: ٢٧)، أي خرجت بمحض إرادتي. وقال الرسول عنه (فيلبي ٢: ٦، ٧): «ٱلَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ ٱللّٰهِ (أو الذي إذ كان كائناً في صورة اللّه)، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً لِلّٰهِ. لٰكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ» أي أنه أخلى نفسه وأخذ صورة عبد بمحض إرادته. وعن مجيء المسيح بإرادة الآب والروح القدس معاً، قال له المجد على لسان إشعياء النبي سنة ٧٠٠ ق م «وَٱلآنَ ٱلسَّيِّدُ ٱلرَّبُّ أَرْسَلَنِي وَرُوحُهُ» (إشعياء ٤٨: ١٦).

ولوحدة جوهر الأقانيم الثلاثة لا يكون إرسال الآب للابن دلالة على وجود أي تفاوت بينهما، بل بالعكس يدل على توافقهما، وتوافق الروح القدس أيضاً معهما في الاهتمام بالبشر والعطف عليهم. أما السبب في ظهور الابن (أو مجيئه) دون الأقنومين الآخَرين، فيرجع إلى أنه هو الذي يعلن اللّه ويظهره، كما مرَّ بنا في الباب الثالث.

اعتراض (٢): «يدل قول المسيح: «أبي أعظم مني» (يوحنا ١٤: ٢٨) على أنه أقل من الآب مقاماً» .

الرد: لا يقصد السيد المسيح بقوله هذا إن الآب أعظم منه من ناحية كونه «ابن اللّه» أو «الابن الأزلي» لأنه من هذه الناحية واحد مع الآب في اللاهوت بكل خصائصه وصفاته. فقد قال عن نفسه: «أنا والآب واحد»، و «أنا في الآب والآب فيَّ»، و «مَنْ رآني فقد رأى الآب»، و «لكي يكرم الجميع الابن كما يكرمون الآب». ولكنه يقصد أن الآب أعظم منه، من ناحية كون المسيح «ابن الانسان» فقد أخلى نفسه، وأخذ صورة العبد الكامل، الذي ينفذ جميع مقاصد اللّه (فيلبي ٢: ٧). ويُقصد بـ «العبد الكامل» في فلسفة ابن العربي «العقل بالفعل» أو «اللّه عاملاً» لأنه جمع في عين واحدة الحضرة الإلهية بكل صفاتها. والكتاب المقدس قد سبق وأشار إلى ذلك، فقد أطلق اسم «العبد الكامل» على السيد المسيح، الذي هو «اللّه معلَناً» (إشعياء ٥٢: ١٣).

والقرينة تثبت صحة ذلك، لأننا إذا رجعنا إلى الآية المعترَض بها، وجدنا المسيح يعلن أن الآب أعظم منه بمناسبة عودته إليه، بعد إتمام مهمة الفداء التي جاء لأدائها. ونحن نعلم من الكتاب المقدس أنه له المجد قد قام بهذه المهمة بوصفه «ابن الانسان» فقد قال: «لأَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ» (لوقا ١٩: ١٠، متى ١٨: ١١)، وقال «ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ، وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ» (متى ٢٠: ٢٨).

اعتراض (٣): «يدلّ قول السيد المسيح لتلاميذه: «إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلٰهِي وَإِلٰهِكُمْ» (يوحنا ٢٠: ١٧)، وقوله: «إِلٰهِي إِلٰهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟» (متى ٢٧: ٤٦) على أنه كان واحداً من البشر لا أكثر ولا أقل» .

الرد: السيد المسيح هو أحد أقانيم اللاهوت، لكن بتجسُّده من جنسنا أصبحت له طبيعتان كاملتان، هما اللاهوت والناسوت. هاتان الطبيعتان متحدتان كل الاتحاد. فمن حيث اللاهوت كان ولا يزال وسيظل إلى الأبد هو اللّه بعينه، الذي لا إله مثله إطلاقاً، فمكتوب أنه فيه «يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ ٱللاّهُوتِ جَسَدِيّاً» (كولوسي ٢: ٩)، وأنه «ٱلْكَائِنُ عَلَى ٱلْكُلِّ إِلٰهاً مُبَارَكاً إِلَى ٱلأَبَدِ» (رومية ٩: ٥). أما من حيث الناسوت فكان كأحد الناس، ولذلك كان يدعو اللّه من هذه الناحية أباً وإلهاً له. لكنه كان خالياً من الخطيئة خلواً تاماً، الأمر الذي لا يتوافر في إنسان ما.

وتُثبت القرينة صدق هذه الحقيقة، فإذا رجعنا إلى أولى الآيتين المعترض بهما، وجدنا المسيح يقول إن اللّه أبوه وإلهه، بمناسبة إعلانه عن عودته إليه، بعد إتمام مهمة الفداء التي جاء للعالم للقيام بها لأجلنا، بوصفه ابن الإنسان.

وإذا رجعنا إلى الآية الثانية وجدنا المسيح يدعو اللّه إلهاً له، عندما كان معلَّقاً على الصليب كفارة عن الإنسان. وكان قد سمح أن يُعلَّق عليه لهذا الغرض بوصفه «ابن الانسان»، (لأن الكفارة تكون دائماً من نوع المكفَّر عنه)، كما أن قوله بعد ذلك للّه: «لماذا تركتني؟» يدل على أنه لم ينطق به كابن اللّه، لأنه من هذه الناحية واحد مع الآب والروح القدس في اللاهوت، ولا انفصال له عنهما على الإطلاق.

لكن هناك حالة واحدة يصح أن يُترك فيها من اللّه، وهي حالة وجوده كابن الإنسان للقيام بالتكفير عن الناس، لأن المكفِّر يجب أن يضع نفسه موضع الذين يكفِّر عنهم من كل الوجوه، حتى تكون كفارته حقيقية وقانونية. ولما كان الناس عن بكرة أبيهم خطاة، ويستحقون الترَّك من اللّه إلى الأبد، سمح له المجد أن يُعتبر أثيماً، وأن يُترك من اللّه عوضاً عنهم، وأن يحتمل كل ما يستحقونه من قصاص، حتى يصيروا أبراراً، ولهم حق الاقتراب من اللّه والتمتع به، إن هم قبلوا كفارته، وسلموا حياتهم له تسليماً كاملاً.

اعتراض (٤): «يدل قول السيد المسيح: «وَمَنْ قَالَ كَلِمَةً عَلَى ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ يُغْفَرُ لَهُ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ عَلَى ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ فَلَنْ يُغْفَرَ لَهُ، لا فِي هٰذَا ٱلْعَالَمِ وَلا فِي ٱلآتِي» (متى ١٢: ٣٢)، على أن الروح القدس أسمى مقاماً من الابن» .

الرد: غرض المسيح من هذه الآية أن يعلن لسامعيه أن الذين لم يؤمنوا بلاهوته من الناس الذين كانوا في عهده، يُلتمس لهم بعض العذر، لأنهم لم يروه كاللّه الذي لا حدَّ لمجده أو جلاله، بل رأوه كإنسان محدود متحيّز بحيّز. أما الذين أنكروا منهم قوة الروح القدس التي كان يعمل بها معجزاته وأسندوها إلى الشيطان، فليس لهم عذر على الإطلاق، لأن قوة الروح القدس كانت ظاهرة بدرجة لا تدع مجالاً للشك أمام إنسان ما في أنها قوة اللّه نفسه، ولأنهم أيضاً كانوا يعلمون تمام العلم، كما يعلم جميع الناس في كل العصور، أن الشيطان لا يشفي المرضى أو يحيي الموتى، كما كان يفعل المسيح بقوة الروح القدس.

ولذلك فمن البديهي ألا يُغفر لهم ذنب إنكارهم لشخصيته والحطّ من مكانته، لأن هذا التصرّف رفض متعمَّد للّه وأعماله، وإصرار على عدم الطاعة لسلطانه. ومن يتصرف هكذا يطوّح نفسه بعيداً عن رحمة اللّه، ويحرمها من عفوه وغفرانه. فليس هناك مجال للظن، بأنه يُفهم من هذه الآيات أن أقنوم الروح القدس أفضل مقاماً من أقنوم الابن. ومما يدل أيضاً على صدق هذه الحقيقة أنه له المجد لم يقل: من قال كلمة على ابن اللّه يُغفر له، بل قال: «من قال كلمة على ابن الانسان يُغفر له»،

لأنه كابن الإنسان، كان يبدو كأحد الناس، ولذلك كان من المحتمل أن يشك في شخصيته الذين لم يكن لديهم علم بما هو مكتوب في التوراة عنه. وشكهم هذا، كان من الجائز أن يُغفر لهم، لو أنهم لم يشاهدوا معجزاته، التي كان يعملها بقوة الروح القدس.

اعتراض (٥): «يدل قول السيد المسيح» «خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِ ٱلآبِ، وَقَدْ أَتَيْتُ إِلَى ٱلْعَالَمِ، وَأَيْضاً أَتْرُكُ ٱلْعَالَمَ وَأَذْهَبُ إِلَى ٱلآبِ» (يوحنا ١٦: ٢٨)، على انفصال الابن عن الآب، أو بتعبير آخر على عدم وحدته معه.

الرد: المسيح باستعماله الكلمات «خرجت.. أتيت.. أترك.. أذهب» يكلّمنا باللغة التي نفهمها. أما من حيث هو في ذاته، فإنه لا ينتقل من مكان إلى مكان، لأنه لا يتحيَّز بحيِّز. وقد شهد له المجد بهذه الحقيقة، فذكر عندما كان موجوداً بالجسد على الأرض، أنه كان في نفس هذا الوقت موجوداً في السماء (يوحنا ٣: ١٣)، كما ذكر أنه بعد انطلاقه عن تلاميذه بالجسد، سيكون ماكثاً معهم، كما سيكون ماكثاً أيضاً إلى انقضاء الدهر مع جميع المؤمنين الحقيقيين، في كل أنحاء الأرض (متى ٢٨: ٢٠). وهذا دليل واضح على أن ظهوره في مكان ما لا يؤدي إلى انفصاله عن اللاهوت، أو انفصاله عن أحد الأقنومين الآخرين، بأي حال من الأحوال.

وقولنا «في مكان ما» هو بالنسبة إلينا، وليس بالنسبة إلى اللّه، لأن اللّه لا يتحيَّز بمكان. ولا غرابة في ذلك، فجوهر الأقانيم وهو اللاهوت، غير قابل للانقسام أو التجزئة، أو التحيّز بمكان أو زمان، فهم مميَّزون أحدهم عن الآخر، لكنهم واحد بوحدانية غير قابلة للتفكك على الإطلاق.

اعتراض (٦) : «إذا كان الأقانيم واحداً في الخصائص والصفات، فلماذا يُقال إن الآب كان يمثل العدالة، ولذلك كان يريد القضاء على البشر بسبب خطاياهم، وان الابن كان يمثّل الرحمة، ولذلك ظهر في العالم ومات على الصليب كفارة عنهم؟».

الرد: هذا القول ليس له أساس في الكتاب المقدس، لأن الاقانيم الثلاثة – لوحدة جوهرهم – يتَّصفون بالعدالة والرحمة (وباقي الصفات الأخرى) بدرجة واحدة. فاللّه بأقانيمه (وليس أقنوم واحد) لا يحب الخطيئة، ولا يقبل الناس الملوَّثين بها في حضرته، وفي الوقت نفسه يحب هؤلاء الناس ويعطف عليهم إلى درجة لا حدَّ لها، لأنه سبق وخلقهم على صورته كشبهه.

ولذلك فإن المسيح على الصليب لم يكن معلِناً لرحمة اللّه فقط، بل كان معلِناً لعدالة اللّه ورحمته معاً، فقد قبل في ذاته نتائج الخطيئة بأسرها تحقيقاً للعدالة، وقبلها نيابة عن الناس تحقيقاً للرحمة (وقد تفرَّد بهذا العمل لأنه الأقنوم الذي يعلن اللّه)، وقد شهد الكتاب المقدس بهذه الحقيقة فقال: «إِنَّ ٱللّٰهَ (أو اللاهوت) كَانَ فِي ٱلْمَسِيحِ مُصَالِحاً ٱلْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ، وَوَاضِعاً فِينَا كَلِمَةَ ٱلْمُصَالَحَةِ. إِذاً نَسْعَى كَسُفَرَاءَ عَنِ ٱلْمَسِيحِ، كَأَنَّ ٱللّٰهَ يَعِظُ بِنَا. نَطْلُبُ عَنِ ٱلْمَسِيحِ: تَصَالَحُوا مَعَ ٱللّٰهِ. لأَنَّهُ جَعَلَ ٱلَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، (يقصد السيد المسيح)، (كفارة) خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ ٱللّٰهِ فِيهِ» (٢كورنثوس ٥: ١٩-٢١).

كما أنه لا سبيل للظن بأن عمل «الابن» في الفداء أعظم من عملي الآب والروح القدس فيه، فإن آلام الكفارة لم تقع على اللاهوت، بل على ناسوت المسيح وحده، لأن اللاهوت غير قابل للتأثر بأي مؤثر – كما أن الأقانيم واحد في الجوهر بكل صفاته وخصائصه. فإن كان الابن قد بذل نفسه عنا، فهو لم يقم بذلك بالاستقلال عن الأقنومين الآخرين، بل بالاتحاد معهما، فالآب بذله، وبالروح الأزلي قدّم هو نفسه، وبذلها.

اعتراض (٧): «قول السيد المسيح عن الروح القدس إنه ينبثق من الآب (يوحنا ١٥: ٢٦)، يدل على أن الآب كان موجوداً قبل الروح القدس، وأن الروح القدس قد انفصل منه، وهذا يتعارض مع القول بأقنوميته، لأن انبثاقه يدل على أنه مجرد قوة، كما يتعارض مع القول بوحدانيته مع الآب في الأزلية، وفي خصائص اللاهوت الأخرى، تبعاً لذلك».

الرد: ليس الروح القدس منبثقاً من الآب بمعنى أنه منفصل منه أو صادر عنه، لأن الكتاب المقدس ينكر نظرية الصدور التي قال بها الفلاسفة إنكاراً تاماً. أما الآية الخاصة بانبثاق الروح القدس فهي «روح الحق الذي من عند الآب ينبثق». وشتان بين الانبثاق من الآب والانبثاق من عند الآب. فالعبارة الأولى تدل على أن الآب سابق في وجوده للروح القدس، وأن الروح القدس منفصل منه أو صادر عنه، بينما العبارة الثانية تدل على أن الروح القدس موجود مع الآب، ثم انبثق أو خرج (أو بالأحرى ظهر) من عنده من تلقاء ذاته.

ولا يُقصد بالعبارة «من عند» هنا مكان ما، لأن اللاهوت منزه عن المكان والزمان، بل يُقصد بها التعبير باللغة التي نفهمها، على أن الروح القدس أقنوم خاص، وأنه كان مع الآب قبل حلوله على المؤمنين.

ولذلك نرى أن العبارة «من عند» هذه، هي بعينها التي استُعملت في موضع آخر للدلالة على وجود أقنوم الابن مع الآب قبل ظهوره في العالم، فقد قال له المجد مرة «خَرَجْتُ (أو ظهرت) مِنْ عِنْدِ ٱلآبِ» (يوحنا ١٦: ٢٨، ١٧: ٨). أما من حيث أزلية الروح القدس والابن معاً، فقد تحدثنا عنها بالتفصيل في الباب السابق.

كما نلاحظ أن الفعل ينبثق، مبني للمعلوم وليس للمجهول، وهذا دليل آخر على أن الآب لم يخرج الروح القدس من ذاته، بل أن الروح القدس هو الذي خرج أو ظهر من تلقاء ذاته، الأمر الذي يدل على أنه لم يكن جزءاً من الآب، وأخرجه الآب من ذاته، بل أنه كان معه أزلاً.

فإذا رجعنا إلى اللغة الإنكليزية مثلاً، وجدنا أنها لا تعبّر عن «من عند» في هذه الآية بـ «out of» مثلاً، التي تدل على الانتقال من الداخل إلى الخارج، بل يعبر عنها بـ «from»، أي «من عند». وهذا دليل على أن الروح القدس ليس منبثقاً من الآب بمعنى أنه خارج من ذاته، بل بمعنى أنه خارج (أو ظاهر) من عنده، الأمر الذي يدل على أنه كان بأقنوميته معه، قبل حلوله على المؤمنين.

وفي ضوء هذه الحقيقة نقول: بما أن الروح القدس كان مع الآب والابن أزلاً، وبما أن انبثاقه لا يُقصد به انفصاله من أقنومية الآب، بل خروجه أو ظهوره من عنده، وبما أن الكتاب المقدس قد عبّر عن هذا الانبثاق في موضوع آخر بالإرسال (يوحنا ١٤: ٢٦)، وبما أن هذا الارسال، كما هو مسند إلى الآب، مسند أيضاً إلى الابن (يوحنا ١٥: ٢٦)، إذن لا خطأ في القول إن الروح القدس منبثق من عند الآب والابن، بمعنى أنه خارج من عندهما. وإذا كان الأمر كذلك، لا يكون هناك اختلاف بين الأرثوذكس والكاثوليك والإنجيليين في هذا الموضوع. لأن الفريقين الأخيرين لا يعتقدان أن الآب والابن قد بثقا الروح القدس،

بل بالعكس يعتقدان أن الأقانيم الثلاثة واحد في اللاهوت بكل خصائصه وصفاته، وأن الانبثاق المسنَد إلى الروح القدس معناه الظهور وليس الصدور. ولذلك فإن هذه الآية لا تدل على عدم أقنومية الروح القدس أو أسبقية الآب له في الوجود، كما يقول المعترضون، بل تدل على أقنوميته ووجوده السابق مع الآب.

اعتراض (٨): «إذا كان كل أقنوم غير الآخر، فإن الصلاة إلى أحد الأقانيم، لا تكون للأقنومين الآخرين، ولذلك لا تكون موجَّهة إلى اللّه في ذاته».

الرد: وإن كان كل أقنوم غير الآخر، إلا أن الثلاثة أقانيم واحد في اللاهوت، واللاهوت واحد ووحيد، وغير قابل للتفكك على الإطلاق كما ذكرنا مراراً وتكراراً. ولذلك فإن الصلاة المقدمة للآب (مثلاً) هي مقدَّمة للّه أو للاهوت في تعيُّن الآب أو أقنوم الآب. ونظراً لأن لاهوت الآب هو بعينه لاهوت الابن والروح القدس أيضاً، تكون الصلاة المقدمة للآب مقدمة للّه في ذاته.

اعتراض (٩): «إذا كانت عقيدة التثليث حقيقة موحى بها، فلماذا لم يعلنها اللّه بالتفصيل في التوراة، من أول الأمر؟».

الرد: نظراً لانتشار الوثنية في الأزمنة الغابرة، واحتمال إساءة اليهود فَهْم حقيقة التثليث وقتئذ، وجواز اتخاذهم إياها أساساً للاعتقاد بصدق عقيدة تعدد الآلهة، التي كان الوثنيون يؤمنون بها، كان من البديهي ألا يقوم اللّه (وهو العليم بسرعة زيغان الانسان وراء الباطل) بإعلان حقيقة كونه ثلاثة أقانيم دفعة واحدة، بل أن يعلنها لهم شيئاً فشيئاً، وذلك تبعاً لاتساع مداركهم الروحية والعقلية. ولذلك إذا رجعنا إلى التوراة، اتضح لنا أنه كان يعلن فيها أنه ليس أقنوماً واحداً بل أقانيم، كما ذكرنا في الباب الأول من هذا الكتاب.

اعتراض (١٠): «هناك آيات كثيرة تدل على أن الابن» مخلوق بواسطة اللّه أو مولود منه، فقد قال الرسول بالوحي: «المسيح بِكْرُ كُلِّ خَلِيقَةٍ. فَإِنَّهُ فِيهِ خُلِقَ ٱلْكُلُّ: مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى ٱلأَرْضِ» (كولوسي ١: ١٥-١٧)، وقال أيضاً: «يسوع المسيح بَدَاءَةُ خَلِيقَةِ ٱللّٰهِ» (رؤيا ٣: ١٤)،وقال اللّه للمسيح: «أَنْتَ ٱبْنِي. أَنَا ٱلْيَوْمَ وَلَدْتُكَ» (مزمور ٢: ٧)، وقال النبي بالوحي عنه «الذي مَخَارِجُهُ مُنْذُ ٱلْقَدِيمِ مُنْذُ أَيَّامِ ٱلأَزَلِ» (ميخا ٥: ٢)، وقال هو عن نفسه على لسان النبي: «اَلرَّبُّ قَنَانِي أَّوَلَ طَرِيقِهِ، مِنْ قَبْلِ أَعْمَالِهِ، مُنْذُ ٱلْقِدَمِ. مُنْذُ ٱلأَزَلِ مُسِحْتُ، مُنْذُ ٱلْبَدْءِ، مُنْذُ أَوَائِلِ ٱلأَرْضِ. إِذْ لَمْ يَكُنْ غَمْرٌ أُبْدِئْتُ» (أمثال ٨: ٢٢-٢٤).

الرد: هذه الآيات، لا تدل على أن الابن وُلد من اللّه، بمعنى أنه صدر عنه. كما أنها لا تدل على أنه خُلق من اللاشيء بواسطته، بل تدل على أنه أزلي وغير مخلوق، كما يتضح مما يأتي:

(أ) (المسيح) بكر كل خليقة. فإن «فيه خُلق الكل. ما في السموات وما على الأرض» – والفاء في كلمة «فإنه» هي فاء السببية، وهي مترجمة إلى الانكليزية مثلاً «for» أي «لأنه». ولذلك فالمسيح لم يُدْعَ «بكر كل خليقة» لأنه أول شخص خلقه اللّه، كما يقول المعترضون، بل دُعي بهذا لأن كل الخليقة خُلقت فيه.

وإذا كان الأمر كذلك، فإن كلمة «بكر» هنا، لا تكون مستعملة بالمعنى الحرفي، بل بالمعنى المجازي. والمعنى المجازي للبكورية هو الرياسة أو الأفضلية والأولوية. وإذا رجعنا إلى الكتاب المقدس وجدنا أن كلمة «بكر» قد وردت فيه بمعنى «رئيس» أو «أول»، لأن الناموس قد جرى على أن تكون الرياسة للبكر. فقد قال اللّه في (مزمور ٨٩: ٢٧) عن داود النبي: «وأنا أيضاً أجعله بكراً أعلى من ملوك الأرض» مع أن داود كان الابن الثامن لأبيه، وكان بالنسبة إلى الملوك المعاصرين له أصغرهم وأحدثهم سناً. فضلاً عن ذلك فإن كلمة «بكر» هذه استُعملت في موضع آخر عن «المسيح» نفسه، بمعنى رئيس. فقد قال اللّه عنه «لِيَكُونَ هُوَ بِكْراً بَيْنَ إِخْوَةٍ كَثِيرِينَ» (رومية ٨: ٢٩). ويُقصد بالأخوة هنا المؤمنون الحقيقيون بالمسيح، ويُعتبر المسيح بكراً بينهم أو رئيساً لهم، بوصفه ابن الإنسان الذي مجَّد اللّه على الأرض وتمم مشيئته، مثالاً لما يجب أن يعملوه. ويُعتبرون هم إخوته، بوصفهم قد آمنوا به إيماناً حقيقياً والتصقوا به التصاقاً روحياً، وعقدوا النية على السير في سبيله.

ولذلك لا غرابة إذا كان المسيح قد دُعي «بكر كل خليقة» بمعنى أنه رئيسها وسيدها، لأنه هو الذي أبدعها وأنشأها. واليهود أيضاً يعرفون أن البكورية تعني الرياسة أو السيادة، وأنها عندما تُسند إلى اللّه يُراد بها السيادة المطلقة والرياسة العامة. فقد ورد في التلمود اليهودي: «اللّه القدوس يُدعى بكر العالم، للدلالة على سلطته على كل الكائنات». فإذا أضفنا إلى ذلك أن كلمة «بكر» عندما يُشار بها إلى المسيح، لا تسبقها البتة كلمة «ابن»، فلا يُقال عنه أبداً أنه «الابن البكر»، وأنه لايشار البتة إلى المسيح كمخلوق أو منبثق من اللّه، لا يبقى مجال للشك في أن المراد ببكورية المسيح، ليس ولادته قبل غيره، بل رياسته وسيادته كما ذكرنا.

(ب) «(يسوع المسيح) بداءة خليقة اللّه». هذه الآية لا تقول إن المسيح هو أول شخص خلقه اللّه، بل إنه بداءة خليقة بمعنى أصلها، لأن بداءة الشيء أصله أو مصدره الذي ابتدأ منه. ومما يؤكد لنا صدق هذه الحقيقة أن كلمة «بداءة» هذه موجودة في النسخة اليونانية «أرخى» وترد بمعنى رأس أو مصدر أو أصل، ولذلك فالآية المذكورة، لا تدل على أن المسيح هو أول مخلوق، بل تدل على أنه أصل الخليقة ورأسها ومصدرها. ومما يثبت أيضاً صدق هذه الحقيقة أن المسيح دُعي «البداءة» (كولوسي ١: ١٨) أي «الأصل» أو «أصل كل شيء».

وكلمة «رأس» الواردة في أمثال ٩: ١٠ «بَدْءُ ٱلْحِكْمَةِ مَخَافَةُ ٱلرَّبِّ» في الأصل اليوناني أو السبعيني «أرخى». وهذه الكلمة هي بعينها المترجمة «بداءة» في الآية «يسوع المسيح بداءة خليقة اللّه»، الأمر الذي يدل على أنه يُراد بها أن يسوع المسيح هو رأس الخليقة. فضلاً عن ذلك فان كلمة «أرخي» هذه، هي أصل الكلمة التي كان يطلقها فلاسفة اليونان على «الأرخونات» أو «الأيونات» التي زعموا أنها هي التي خلقت العالم وتقوم بتدبير شئونه. كأن الوحي باستعماله هذه الكلمة بالذات عن المسيح، يعلن لهم أن رأس العالم أو خالقه والمدبر لأموره، ليس هو الأيونات أو الأرخونات، بل هو «المسيح» أو «الابن الأزلي».

(ج) «أنت ابني. أنا اليوم ولدتك» بالتأمل في هذه الآية يتضح لنا أن البنوّة الواردة فيها ليست متوقّفة على الولادة، بل إنها سابقة لهذه الولادة، أو بتعبير آخر إنها بنوّة بدون ولادة، وذلك للأسباب الآتية:

  1. إن اللّه لا يلد، بمعنى يُخرج من ذاته، لأن عملاً مثل هذا يؤدي إلى حدوث تغيّر فيه، والحال أنه لا يتغير.ولا يُعقل مطلقاً أن يكون معنى الولادة هنا الخلق، لأنه لو فرضنا أن اللّه لم يكن متميزاً بالابن أزلاً (أو بتعبير آخر لو فرضنا أن وحدانيته هي وحدانية مطلقة أو مجردة) وأسندنا إليه بعد ذلك خلق «الابن»، نكون قد أسندنا إليه التغيُّر، إذ يكون قد عمل بعد أن كان لا يعمل، ويكون قد دخل في علاقة بعد أن لم تكن له علاقة. وبما أنه لا يتغير فلا مفرَّ من التسليم بأن «الابن» أزلي بأزلية اللّه أو اللاهوت، أو بتعبير آخر بأن وحدانية اللّه وحدانية جامعة مانعة.
  2. لم يقل اللّه للمسيح: «أنا اليوم ولدتك. أنت ابني» بل قال له: «أنت ابني أنا اليوم ولدتك». وهذا دليل على أن البنوّة هنا سابقة للولادة، أو بتعبير آخر إنها بدون ولادة. والبنوّة التي بدون الولادة الخاصة بـ «الابن» هي البنوّة الأزلية التي يتميز بها أزلاً، والتي لا تعني سوى إعلانه للاهوت.
  3. لا توجد بين فقرتي هذه الآية كلمة تدل على أنه من الجائز أن يكون معناها أن المسيح دُعي ابن اللّه، لأنه وُلد من اللّه، بل توجد بينهما «فاصلة». فلا يُقصد بالآية المذكورة سوى المعنى الذي يُفهم من الوضع الموجود عليه ألفاظها. وهو أن المسيح هو «ابن اللّه» أولاً أو أصلاً، ثم بعد ذلك وُلد منه في يوم من الأيام. والفاصلة تدلنا على أن كلا الفقرتين قائم بذاته، ومستقل في معناه عن غيره، ولذلك يجب أن تُفهم كل منهما على حدة.

والكلمة اليونانية المترجمة «اليوم» في هذه الآية، لا تدل على زمن من الأزمنة الأزلية، بل تدل على يوم من الأيام العادية، فلا يُفهم منها أن المسيح مولود من اللّه في وقت ما في الأزل، كما يقول بعض الهراطقة، بل يُفهم منها أنه موجود معه منذ الأزل، ولكن ظهر أو تجلى في يوم من الأيام.

وإذا كان الأمر كذلك، فما معنى الولادة في هذه العبارة؟ الجواب: لنفهم معناها علينا أن نتأمل كل الآيات التي وردت فيها هذه العبارة مع ما قبلها وما بعدها من آيات (لأن هذه هي الوسيلة الصحيحة لفهم كل آية في الكتاب).

فأولاً: سجَّل داود النبي بالوحي خطاباً من اللّه إلى المسيح باعتباره ابن الإنسان، جاء فيه: «أَنْتَ ٱبْنِي. أَنَا ٱلْيَوْمَ وَلَدْتُكَ. اِسْأَلْنِي فَأُعْطِيَكَ ٱلأُمَمَ مِيرَاثاً لَكَ وَأَقَاصِيَ ٱلأَرْضِ مُلْكاً لَكَ» (مزمور ٢: ١-٩).

ثانياً: قال الرسول بولس لليهود: «إِنَّ ٱللّٰهَ أَقَامَ يَسُوعَ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ أَيْضاً فِي ٱلْمَزْمُورِ ٱلثَّانِي: أَنْتَ ٱبْنِي أَنَا ٱلْيَوْمَ وَلَدْتُكَ» (أعمال ١٣: ٣٣). ويتضح لكل من درس الأصحاح المقتبسة منه هذه الآية، أن كلمة «أقام» هنا لا يُراد بها إقامة المسيح من بين الأموات، بل تنصيبه مخلصاً للعالم بعد إقامته من بين الأموات، مثلها في ذلك مثل كلمة «أقام» في الآية «أَقَامَ ٱللّٰهُ لإِسْرَائِيلَ مُخَلِّصاً» (أعمال ١٣: ٢٣) و «أقام» في الآية «وَأَقَامَ لَهُمْ دَاوُدَ مَلِكاً» (أعمال ١٣: ٢٢). ولكن مما يسترعي الانتباه أن الفعل الخاص باقامة المسيح مخلصاً، يرد في اللغة اليونانية بصيغة المضارع التام، ولذلك يكون المعنى الحرفي للآية أن اللّه أقام يسوع مخلصاً إلى الآن، أما الفعل الخاص بإقامة داود ملكاً فيرد في صيغة الماضي للدلالة على أن خدمته قد مضت وانتهت. فخدمة داود قد عفا عليها الزمن. أما خدمة المسيح فباقية إلى انقضاء الدهر.

ثالثاً: وقال لهم: «لِمَنْ مِنَ ٱلْمَلائِكَةِ قَالَ قَطُّ: أَنْتَ ٱبْنِي أَنَا ٱلْيَوْمَ وَلَدْتُكَ»؟… وَأَيْضاً مَتَى أَدْخَلَ ٱلْبِكْرَ إِلَى ٱلْعَالَمِ يَقُولُ: «وَلْتَسْجُدْ لَهُ كُلُّ مَلائِكَةِ ٱللّٰهِ» (عبرانيين ١: ٥، ٦).

رابعاً: ثم قال لهم: «كَذٰلِكَ ٱلْمَسِيحُ أَيْضاً لَمْ يُمَجِّدْ نَفْسَهُ لِيَصِيرَ رَئِيسَ كَهَنَةٍ، بَلِ ٱلَّذِي قَالَ لَهُ: أَنْتَ ٱبْنِي أَنَا ٱلْيَوْمَ وَلَدْتُكَ» (عبرانيين ٥: ٥).

فمن الآية الأولى، يتضح لنا أن العبارة «أنت ابني، أنا اليوم ولدتُك». قد استُعملت بمناسبة إعلان سلطان المسيح وملكه. ومن الثانية يتضح لنا أنها استُعملت بمناسبة الإعلان عن إقامة المسيح مخلصاً لجميع الناس. ومن الثالثة يتضح لنا أنها استُعملت بمناسبة الإعلان عن سمو المسيح فوق الملائكة. ومن الرابعة يتضح لنا أنها استُعملت بمناسبة الإعلان عن كهنوت المسيح الذي يفوق كل كهنوت.

مما تقدم، يتضح لنا أن الولادة في هذه الآية يُراد بها الإعلان والإظهار وهذا المعنى ليس بالغريب عن مسامعنا، فنحن نعلم أن الولادة يُراد بها معنوياً إظهار غير الظاهر، وإعلان غير المعلَن. والمسيح بسبب وجوده في الجسد كإنسان، لم يكن ظاهراً ومعلناً للناس، كما هو في ذاته، ولذلك كان من البديهي أن يظهره اللّه ويعلنه للناس كما هو، في حقيقة ذاته وأمجاده، أو بحسب التعبير المجازي أن «يلده» لهم.

(د) «الذي مَخَارِجُهُ مُنْذُ ٱلْقَدِيمِ مُنْذُ أَيَّامِ ٱلأَزَلِ» (ميخا ٥: ٢) – وهذه الآية لا تدل على أن الابن «وُلد» من اللّه في الأزل، لأنه فضلاً عن استحالة حدوث ذلك، للأسباب التي ذكرناها فيما سلف، فإنه لو كان هذا هو المقصود منها، لكان قد قيل «مخرجه» بدلاً من «مخارجه». إذ أن الكلمة الأخيرة تدل على أن «الابن» قد خرج من أكثر من مصدر واحد، مع أن اللّه (لو فرضنا أن الابن خرج منه منذ الأزل، كما يقول المعترضون) هو واحد.

ولذلك يُقصد بالآية المذكورة التعبير عن النواحي المتعددة، التي كان ولا يزال يخرج منها الابن، أو بتعبير أدق، يبدو منها لإتمام مقاصد اللاهوت، وذلك بوصفه المعلِن له والمنفِّذ لأفكاره ومقاصده. ومما يؤكد لنا صدق هذه الحقيقة أن كلمة «منذ» تدل دلالة قاطعة على أنه لا يُقصد بهذه الآية أن الابن خرج من عند اللّه في الأزل كعملٍ تمَّ وانتهى، بل تدل على أن مخارجه «going forth» أو «outlets» أو «outgoings»، كانت منذ الأزل ولا تزال إلى الوقت الحاضر. ولذلك فإن فعل هذه العبارة (المستتر في اللغة العربية لإمكانية معرفته، كما يُقال في قواعد هذه اللغة)، موجود في اللغات الأجنبية في صيغة المضارع التام present perfect tense .

فهو في اللغة الانكليزية مثلاً «have been» وهذا الفعل يدل تماماً على ما تدل عليه كلمة «منذ» العربية، أي أنه يدل على أن مخارج الابن كانت منذ الأزل ولا تزال إلى الآن. ولذلك لا يمكن أن يكون الغرض من كلمة «مخارجه» هنا، سوى النواحي التي كان ولا يزال يبدو منها الابن، لتنفيذ مقاصد اللاهوت.

(هـ) «الرب قناني أول طريقه، من قبل أعماله، منذ القدم، منذ الأزل» – هذه الآية لا تدل على أن أقنوم «الابن» قد وُلد في الأزل، بل على أنه كان موجوداً منذ الأزل. لأن قوله «قناني» منذ الأزل، يدل على وجوده حينذاك، إذ أن الشيء لا يُقتنى إلا إذا كان أولاً موجوداً. أما اقتناء اللّه (أو اللاهوت) له أول طريقه، من قبل أعماله، منذ الأزل، فذلك لأن أقنوم الابن هو الذي يظهر اللّه ويعلن مقاصده ويتممها. ولا يُراد بالاقتناء هنا المعنى الحرفي الذي هو الحيازة أو التملُّك، بل المعنى الروحي الذي يتوافق مع وحدانية اللّه وثباته، واستغنائه بذاته عن كل شيء في الوجود، وهذا المعنى ينحصر في ظهور اللاهوت في أقنوم الابن، وإتمام مقاصده فيه منذ الأزل.

(و) «منذ الأزل مُسحت… إذ لم يكن غمر أُبدئت». و «المسح» أو «المسح بالدهن»، اصطلاح ديني يقصِد به تعيين شخص في وظيفته، وفق مشيئة اللّه. وهذه الآية أيضاً لا تدل على أن الابن خُلق في الأزل، بل على أنه كان موجوداً في الأزل، لأن عبارة «منذ الأزل مُسحت» أو «عُيِّنت»، تدل على أنه كان موجوداً في الأزل، لأن الذي «يُمسح» أو «يُعيَّن» يجب أن يكون أولاً موجوداً. كما أن كلمة «أُبدئْتُ» لا تعني «خُلقْت» على الإطلاق، فهي لم ترد في الأصل بما يقابل «was created» أي «خُلقت»، أو «formed» أي «كُوِّنت» أو «اُنشئت»، بل بما يقابل «was brought forth» أي «أُظهرت» أو «أُعلنت» أو «وُلدت». ومن البديهي ألا يكون الأمر سوى ذلك، لأن «الابن» يُتحدث عنه في (أمثال ٨) بوصفه حكمة اللّه، وليس من المعقول أن يكون اللّه بلا حكمة أصلاً أو أزلاً، ثم يصنع لنفسه، أو يخلق لها الحكمة في وقت من الأوقات، إذ من المؤكد أن يكون متميّزاً بالحكمة أصلاً أو أزلاً، لأن هذا هو ما يتوافق مع كماله وعدم تعرُّضه للتغير أو التطور.

مما تقدم، يتبين بكل وضوح وجلاء، أن الكتاب المقدس لا يُفرِّق بين أقنوم وآخر، وأن الآيات التي يُقال إنها تدل على أسبقية الآب على الابن، أو أفضلية الروح القدس عليه، لا يُراد بالابن فيها «الابن» من حيث مركزه «كابن للّه»، بل من حيث مركزه «كابن الإنسان». أما من حيث مركزه «كابن اللّه» فهو «اللّه» في جوهره. وهو من هذه الناحية، واحد مع الأقنومين الآخرين، في اللاهوت بكل خصائصه ومميزاته.

نشر بتصريح من نداء الرجاء

https://call-of-hope.com

You may also like