الرئيسية كتبدفاعيات 14-الفصل الثاني: «الآب»

كتاب الله ذاته ونوع وحدانيته

«الآب»

عوض سمعان

الفصل الثاني: «الآب»

تُنطق كلمة «الآب» في الأصل، بالمدَّة وليس بالهمزة. وكون «الآب» هو «الآب» منذ الأزل الذي لا بدء له، دليل واضح على أن «الابن» هو «الابن» منذ الأزل الذي لا بدء له أيضاً، لأنه ليست هناك «أبوّة» إلا ومعها «بنوَّة». وإذا كان الأمر كذلك فان «الابن» لا يكون مولوداً من الآب أو مخلوقاً به، بل يكون واحداً معه في الازلية، أو بالحري في اللاهوت، بكل خصائصه وصفاته.

١ – السبب في تسميته بـ «الآب»:

لنعرف ذلك، يجب أن نعرف أولاً أن هناك فرقاً كبيراً بين «الوالد» و «الأب»، فقد يكون هناك والد مجرد من كل معاني الأبوّة، وقد يكون هناك شخص تتجمع فيه كل معاني الأبوة دون أن يكون له أولاد مولودون منه. فالتوالد إذن حالة جسدية، بينما الأبوة حالة روحية. لذلك لم يطلق الوحي مرةً على «الآب» اسم (الوالد: parent)، ولا على الابن اسم (ولد اللّه: God’s child)، بل أطلق على الأول دائماً أبداً اسم (الآب: father) وعلى الثاني دائماً أبداً اسم (الابن: son).

كما أنه لم يبدأ بإطلاق هذين الاسمين عليهما عند ولادة المسيح من العذراء، أو في أي زمن من الأزمنة السابقة لولادته منها، بل أطلق على كلٍّ منهما اسمه الخاص به، منذ الأزل السابق لكل زمن، الأمر الذي يدل على أن الآب لم يكن سابقاً للابن، ولا الابن كان لاحقاً للآب، ولذلك ليس هناك مجال للشك، في أن معنى الأبوة هنا، هو المعنى الروحي وحده.

وبما أن الكتاب المقدس ينصّ على أن اللّه روح لا أثر للمادة فيه، وأنه لا يلد، وأنه لا شريك له أو نظير، وأنه ليس قبله أو بعده إله، وأنه ثابت لا يزيد أو ينقص على الإطلاق، إذن فمن المؤكد أنه لا يُراد بأقنوم «الآب»، «أب» بالمعنى الحرفي الذي يتبادر إلى ذهن الإنسان الجسدي بل «أب» بالمعنى الروحي، الذي يتوافق مع روحانية اللّه وخصائصه السامية الأخرى.

والمعنى الروحي للأبوة بالنسبة إلى اللاهوت هو (كما يتضح من الكتاب المقدس) المحبة الباطنية. وتسميته بـ «الآب» لهذا السبب ليست بالأمر الغريب، إذ أنها تتوافق مع الحقيقة المعلومة لدينا من بعض الوجوه، لأن الأبوَّة في لغتنا البشرية تدل (فيما تدل عليه) على المحبة الباطنية السامية، ومحبة مثل هذه تليق باللّه، وبه وحده، لأن محبته لا يحدّها حدّ، كما أن ذاته لا يحدّها حدّ.

وتُستعمل كلمة «الآب» في غير معناها الحرفي، ليس في هذا الموضع فحسب، بل وفي مواضع كثيرة أيضاً، فنحن نقول عن شخص إنه أبو الفقراء أو أبو الخير، للإشارة إلى صفة من صفاته، أو عمل من أعماله. لكن معنى «الآب» هنا، يختلف كل الاختلاف عن هذين المعنيين، وعن غيرهما من المعاني، ولذلك ليس هناك مجال للظن بأنه دُعي بهذا الاسم لأنه أنجب أقنوم «الابن»، أو لأنه ذو فضل عليه، أو لأنه أقدم منه، أو غير ذلك من المعاني البشرية التي تخطر بذهن الإنسان الجسدي، لأن الوحي ينص على أن «الآب» واحد مع «الابن» في اللاهوت بكل صفاته وخصائصه.

فقد قال الابن: «أَنَا وَٱلآبُ وَاحِدٌ» (يوحنا ١٠: ٣٠)، كما أنه عندما سأله تلميذه فيلبس: «يَا سَيِّدُ، أَرِنَا ٱلآبَ وَكَفَانَا». قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «أَنَا مَعَكُمْ زَمَاناً هٰذِهِ مُدَّتُهُ وَلَمْ تَعْرِفْنِي يَا فِيلُبُّسُ! اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى ٱلآبَ، فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ أَرِنَا ٱلآبَ؟ أَلَسْتَ تُؤْمِنُ أَنِّي أَنَا فِي ٱلآبِ وَٱلآبَ فِيَّ؟ ٱلْكَلامُ ٱلَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ لَسْتُ أَتَكَلَّمُ بِهِ مِنْ نَفْسِي، لٰكِنَّ ٱلآبَ ٱلْحَالَّ فِيَّ هُوَ يَعْمَلُ ٱلأَعْمَالَ. صَدِّقُونِي أَنِّي فِي ٱلآبِ وَٱلآبَ فِيَّ، وَإِلا فَصَدِّقُونِي لِسَبَبِ ٱلأَعْمَالِ نَفْسِهَا» (يوحنا ١٤: ٨-١١). ولو لم يكن المسيح واحداً مع الآب في اللاهوت، لأجاب فيلبس إن الآب لا يُرى، لأنه اللّه غير المنظور، والمسيح رسوله الذي أتى إلى العالم ليخبر الناس عنه… لكن رده بالصيغة المذكورة، لا يدع مجالاً للشك في أنه واحد مع الآب في اللاهوت، كما ذكرنا.

فأسماء الأقانيم، كما قلنا فيما سلف، هي أسماء إلهية روحية خاصة باللّه دون سواه، والغرض الوحيد منها، هو الإعلان عن أنه جامع لكل الصفات والخصائص اللازمة لكماله واستغنائه بذاته أزلاً، ووجود علاقات متكاملة بينه وبين ذاته حينذاك، دون أن يكون هناك تركيب في ذاته أو يكون هناك شريك معه.

٢ – المحبة الأزلية بين «الآب» و «الابن»:

قال «أقنوم الابن» مرة، عندما كان بالجسد على الارض، في خطاب له مع «الآب»: «لأَنَّكَ أَحْبَبْتَنِي قَبْلَ إِنْشَاءِ ٱلْعَالَمِ» (يوحنا ١٧: ٢٤). وبذلك كشف لنا عن سر من الأسرار التي كانت في اللاهوت، أو بالحري، بين أقانيم اللاهوت، قبل خلق أي شيء في الوجود، أو بتعبير آخر في الأزلية السحيقة التي لا يعرف الفلاسفة عن اللّه (أو غيره) شيئاً فيها، فوصفوها بالغيب، ووصفوا اللّه فيها باللاتعيُّن والعُزلة والتجرُّد من كل علاقة. لكن في هذه الأزلية السحيقة المجهولة لديهم، أعلن لنا «الابن» أن المحبة كانت متبادلة بين «الآب» وبينه. ولا شك أنها كانت متبادلة، وعاملة وقتئذ بكل كمالها، كما تعمل في جميع الأوقات، لأن صفاته ثابتة كاملة، وغير قابلة للزيادة أو النقصان.

٣ – تبادل المحبة بين الأقانيم الثلاثة:

ومما تجب ملاحظته في هذه المناسبة، أن الوحي لا يسند المحبة إلى أقنوم أو أقنومين، بل إلى الثلاثة أقانيم معاً، أو بالحري إلى اللّه أو اللاهوت في ذاته، فقد قال «اللّه محبة» (١يوحنا ٤: ٨)، ومعنى ذلك أن اللاهوت الذي هو جوهر كل أقنوم، وجوهر الأقانيم معاً، هو محبة. ولذلك فإن «الآب» يحب «الابن»، و «الابن» يحب «الآب» (يوحنا ١٤: ٣١)، والروح القدس هو روح المحبة (رومية ١٥: ٣٠، ٢ تيموثاوس ١: ٧). وتبادل المحبة بين الأقانيم، دليل على التوافق التام بينهم، أو بتعبير آخر على التوافق التام بين اللّه وذاته، الأمر الذي يلائم كماله كل الملاءمة.

لكن الوحي يدعو أحد الأقانيم بـ «الآب» لأن أقنوميته تُبْطن كل معاني المحبة في اللّه، ويدعو أقنوماً آخر بـ «الابن» لأن أقنوميته تظهر كل معاني المحبة في اللاهوت، ولذلك فان كلاً من الأبوّة والبنوّة، هي نسبة إلهية أزلية روحية، ليس لها نظير في العالم على الإطلاق.

ويدعو الوحي أقنوماً آخر بـ «الروح القدس» أو «روح المحبة» (رومية ١٥: ٣٠). ولذلك فهو الذي يسكب محبة اللّه في قلوبنا (رومية ٥: ٥)، وحتى نستطيع إدراكها والافادة منها، لأننا من تلقاء أنفسنا لا نستطيع إلى ذلك سبيلاً بسبب قصورنا الذاتي. والروح القدس هو مجرَى محبة اللاهوت المقدسة وحاملها.

وبما أن المحبة متجلية في الآب للابن، وفي الابن للآب، وأن الروح القدس هو روح المحبة وحاملها، لذلك لا جدال في أن اللّه كامل كل الكمال، ومستغنٍ بذاته كل الاستغناء، منذ الأزل الذي لا بدء له، لأن حياة المحبة هي في الواقع أسمى نوع من أنواع الحياة، ومن يحياها لا يشعر أنه في حاجة إلى شيء على الإطلاق، لأن المحبة هي «رباط الكمال». ومن هذا يتضح أن خلق اللّه للعالم لم يكن نتيجة لشعوره بحاجة إلى إظهار ذاته أو استثمار صفاته، كما قال بعض الفلاسفة وعلماء الدين،

لكنه شاء منذ الأزل (والمشيئة إحدى الصفات العاملة فيه أزلاً، لأن وحدانيته هي وحدانية جامعة مانعة)، ألا تكون محبته أمراً ذاتياً لا ينعم بها سواه، بل أن يعبّر عنها في صورة خارجية موضوعية، فينعم بها غيره أيضاً، لأن هذا هو ما يتوافق مع خصائص المحبة الإيثارية التي يتصف بها، ولذلك قام بخلق الكائنات حسب مقاصده الأزلية من نحوها.

وإذا كان من المحال أن يكون غرض اللّه من الخلق هو إظهار ذاته واستثمار صفاته، لأنه كامل كل الكمال في ذاته وصفاته، ومستغنٍ كل الاستغناء عن كل شيء سواه، ألا تكون عقيدة التثليث، التي تبيّن أن الخلق كان نتيجة طبيعية للمحبة الكائنة بين اللّه وذاته أزلاً، هي عقيدة صادقة تتفق مع كماله كل الاتفاق؟!

فأبوة الآب للابن، لا يُراد بها إذن أن الآب أفضل من الابن مقاماً، أو أقدم منه زماناً، بل يراد بها التعبير باللغة التي نفهمها عن نسبة من نسب المحبة السامية الكائنة بينهما، فأقنوم «الآب» يبطن محبة اللاهوت التي لا حد لها، وأقنوم «الابن» يعلن هذه المحبة ويظهرها بتمامها، لأنه واحد مع الآب في اللاهوت. ولذلك دُعي المسيح «ابن محبة اللّه» (كولوسي ١: ١٣). وهذا الاسم فضلاً عن دلالته على أن المسيح هو المعلِن لمحبة اللّه، فانه يدل أيضاً على أن بنوته للّه هي بنوة روحية محض، لا يُراد بها سوى إعلان اللّه واظهاره، كما ذكرنا في فاتحة هذا الكتاب.

٤ – أبوة الآب للمؤمنين:

وقد شاء اللّه في نعمته ومحبته اللتين لا حد لهما، أن يدعو المؤمنين الحقيقيين به أبناءً وأولاداً له فقال يوحنا الرسول لهم: «أُنْظُرُوا أَيَّةَ مَحَبَّةٍ أَعْطَانَا ٱلآبُ حَتَّى نُدْعَى أَوْلادَ ٱللّٰهِ! مِنْ أَجْلِ هٰذَا لا يَعْرِفُنَا ٱلْعَالَمُ، لأَنَّهُ لا يَعْرِفُهُ» (١يوحنا ٣: ١).

وهذا يرينا أن الإيمان الحقيقي باللّه، ليس هو مجرد الاعتراف بوجوده، أو معرفة صفاته وأعماله، أو محاولة الخضوع لوصاياه وأحكامه، بل هو الإدراك الروحي له الذي لا يتأتى إلا بمعرفة ذاته. وهذه بدورها لا تتأتى إلا عن طريق «الابن» لأنه هو الذي يعلن ذات اللّه. ولذلك فالاتحاد الروحي بـ «الابن» والخضوع التام له بواسطة عمل الروح القدس في القلب، هو السبيل لمعرفة اللّه، وبالتالي هو السبيل للايمان به إيماناً حقيقياً. ولذلك قال الوحي عن «الابن»: «وَأَمَّا كُلُّ ٱلَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلادَ ٱللّٰهِ، أَيِ ٱلْمُؤْمِنُونَ بِٱسْمِهِ» (يوحنا ١: ١٢)، وقال له المجد عن نفسه: «أَنَا هُوَ ٱلطَّرِيقُ وَٱلْحَقُّ وَٱلْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى ٱلآبِ إِلاّ بِي» (يوحنا ١٤: ٦).

ولولا ذلك، لكنا ننظر إلى اللّه، كما لو كان فقط الكائن المتعالي عنا، المترفع عن الاتصال بنا، والذي لا عمل له سوى تسجيل خطايانا ليعاقبنا عليها يوم الدين، ولكنّا لا نحيا تبعاً لذلك إلا حياة القلق والخوف، دون أن يخطر ببالنا أنه من الممكن أن يكون لنا أو لغيرنا حق الاقتراب إليه والتمتع به، بالحرية التي يتمتع بها الأبناء بأبيهم الطيب الصالح.

نعم كنا نخشى بأسه وسلطانه، ونعمل كل ما نعتقد أنه كاف لاسترضائه، وجلب غفرانه ورضوانه، لكن كنا لا نعرف كيف نتمتع بحبه وحنانه، أو ننعم بالاتصال به والتوافق معه في صفاته وأفكاره، بل وكنا لا نضمن ونحن بشر خطاة، أن يكون لنا نصيب في سمائه الطاهرة.

وقال بولس الرسول للمؤمنين: «ثُمَّ بِمَا أَنَّكُمْ أَبْنَاءٌ، أَرْسَلَ ٱللّٰهُ رُوحَ ٱبْنِهِ إِلَى قُلُوبِكُمْ صَارِخاً: يَا أَبَا ٱلآبُ» (غلاطية ٤: ٦). وليس معنى ذلك أنهم أصبحوا واحداً مع الابن في أقنوميته، أو في نسبته الفريدة مع الآب. كلا، بل إنهم يُعتبرون فقط أولاداً للّه، بسبب إيمانهم القلبي بـ «الابن» واتحادهم الروحي به. فهم أبناء بالتبني والنعمة، أما هو فابن بجوهره وحقه الذاتي غير المكتسَب، ولذلك فإنهم مع تمتعهم بهذا الامتياز، لا يزالون كما كانوا من قبل إيمانهم واتحادهم به، خَلْق اللّه وعبيده، ولا يزال هو بالنسبة لهم، خالقهم وسيدهم.

وكلمة «آبا» أرامية، وهي اللغة التي كانت متداولة في فلسطين أثناء القرون الأولى للمسيحية. ونظراً لشيوع استعمال هذه الكلمة بين المسيحيين وقتئذ، نُقلت بحرفيتها إلى اللغة اليونانية وغيرها من اللغات، وكُتب معناها بعدها، فمعنى هذه الآية إذن، هو فقط «صارخاً أيها الآب». وبهذه المناسبة نقول، إن الأديان قد انقسمت من جهة الاعتقاد بمعاملة اللّه للناس إلى أربعة أقسام. (١) قسم يعتقد أن اللّه يقسو في معاملته مع البشر، فهو الذي يجلب عليهم المتاعب والآلام.

(٢) وقسم يعتقد أنه لا يبالي بالبشر، فهو يتركهم وشأنهم في هذه الحياة. (٣) وقسم يعتقد أنه شفوق رحوم، يعطف عليهم ويهتم بهم. (٤) أما القسم الأخير وهو المسيحية، فينادي بأن اللّه لا يعطف على البشر فقط، بل ويحبهم أيضاً، فهو بمثابة الآب الطيب الصالح لهم. وهناك فرق كبير بين العطف والمحبة، فقد يعطف غني نبيل على شرير معوز، فيمده ببعض المال أو الطعام،

ولكنه لا يستطيع مع عطفه عليه أن يرحب به في بيته ويجد لذة في السكنى معه، فهذا الغني النبيل يعطف على الشرير المعوز، ولكنه لا يحبه أو يميل إليه. أما اللّه فبرغم خطايانا وحقارة شأننا بالنسبة إليه، لا يعطف فقط علينا، بل ويحبنا أيضاً بمحبة لا حد لها، فقد قال الوحي عنه: «هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يوحنا ٣: ١٦). وقال أيضاً: «الذين أحبهم، أَحَبَّهُمْ إِلَى ٱلْمُنْتَهَى» (يوحنا ١٣: ١)، وأيضاً إنه محبة أبدية أحبهم، ولذلك أدام لهم الرحمة (إرميا ٣١: ٣) – وهذا هو ما يُنتَظر طبعاً من إله كامل كل الكمال.

٥ – اسم «الآب» في التوراة والفلسفة:

اسم اللّه كـ «الآب»، لم يرد في الإنجيل فقط، بل وفي التوراة أيضاً، فقد خاطبه النبي مرة قائلاً: «وَٱلآنَ يَا رَبُّ أَنْتَ أَبُونَا. نَحْنُ ٱلطِّينُ وَأَنْتَ جَابِلُنَا، وَكُلُّنَا عَمَلُ يَدَيْكَ» (إشعياء ٦٤: ٨). لكن بالتأمل في هذه الآية، والآيات المشابهة لها، يتضح لنا أن اللّه لم يكن معروفاً وقتئذ ك- «الآب»، بالمعنى المعروف به في المسيحية، بل كان معروفاً كالآب، بمعنى الخالق والمحسن فحسب، وهو من هذه الناحية أب لكل الناس على السواء. وإذا رجعنا إلى الفلسفة، وجدنا أيضاً أن اسم اللّه «كالآب»، قد استُعمل فيها بمعنى الخالق للعالم والمدبر له والمعتني به، كما كان يُقصَد به في التوراة من قبل.

ولذلك إذا رجعنا إلى تاريخ البشر الذين عاشوا في العهد القديم، لا نجد واحداً منهم كان يتمتع باللّه كالآب، بما في هذه الكلمة من معاني الحب والحنان والنسبة الكريمة السامية، بل كانوا يقشعرون جميعاً من حضرته، بسبب شعورهم بنقائصهم وخطاياهم المتعددة. أما المؤمنون الحقيقيون بالابن، فلهم أن يتمتعوا باللّه، كما يتمتع الأبناء البررة بأبيهم الطيب الصالح، لأنه بفضل إدراكهم الروحي لكفارة الابن وقبولهم إياها، تزول كل مخاوفهم من جهة قصاص خطاياهم، وبفضل عمل الروح القدس في نفوسهم، يحصلون على حياة روحية تؤهلهم للتمتع باللّه والتوافق معه في أفكاره وصفاته.

٦ – أعمال الآب الخاصة بنا:

بما أن «الآب»، بوصفه «الآب»، هو الذي يُبْطن محبة اللّه الازلية، لذلك لا غرابة إذا علمنا أنه هو الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح، وأنه هو الذي اختارنا فيه قبل تأسيس العالم، لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة (أفسس ١: ٣، ٤)، وأنه هو الذي ولدنا ولادة روحية لرجاء حي (١بطرس ١: ٣)، وأنه هو الذي أهّلنا لشركة ميراث القديسين في النور (كولوسي ١: ١٢)، وغير ذلك من الأعمال الخاصة بعلاقة اللّه الباطنية بنا.

٧ – أقنوميته:

وبما أن «الآب» يقوم بالأعمال المذكورة، إذن فهو ليس صفة، بل أقنوم، كما ذكرنا في الباب السابق.

نشر بتصريح من نداء الرجاء

https://call-of-hope.com

You may also like