الرئيسية كتبدفاعيات 13-الباب الثالث: أسماء الأقانيم

13-الباب الثالث: أسماء الأقانيم

بواسطة nancy tharwat
41 الآراء

كتاب الله ذاته ونوع وحدانيته

أسماء الأقانيم

عوض سمعان

أسماء الأقانيم

في هذا الباب نجد

١ – الابن أو الكلمة

٢ – الآب

٣ – الروح القدس

يجد بعض الناس رغم توضيحاتنا السابقة، صعوبةً في إدراك حقيقة وحدانية اللّه في ثالوثه، لاعتقادهم أن أسماء الأقانيم تتعارض مع ما يجب له من توحيد تام. ولذلك رأينا أن نشرح في هذا الباب والباب التالي، ما تدل عليه أسماؤهم من معانٍ، وأن نبسط شيئاً من صفاتهم وأعمالهم، ليتضح لهؤلاء الناس أن التثليث يتوافق كل التوافق مع وحدانية اللّه، وعدم وجود تركيب فيه، وأن الأسماء التي أطلقها الوحي على الأقانيم، هي إعلان عن أن اللّه جامع لكل الخصائص والصفات الواجبة لكماله واستغنائه بذاته أزلاً، ووجود علاقات متكاملة بينه وبين ذاته حينذاك، دون أن يكون هناك تركيب في ذاته، أو يكون هناك شريك معه.

الفصل الأول: «الابن» أو «الكلمة»

أولاً: «الابن»

١ – السبب في تسميته «الابن»:

بما أن الكتاب المقدس ينص على أن اللّه روح لا أثر للمادة فيه، وأنه لا يولد ولا يلد، وأنه لا شريك له أو نظير، وأنه ليس قبله أو بعده إله، وأنه ثابت لا يزيد ولا ينقص على الإطلاق. إذن فمن المؤكد أنه لا يُراد بأقنوم «الابن»، «ابن» بالمعنى الحرفي الذي يتبادر إلى ذهن الإنسان الجسدي، بل «ابن» بالمعنى الروحي الذي يتوافق مع روحانية اللّه وخصائصه السامية الأخرى. ويعرف كل المسيحيين هذه الحقيقة تمام المعرفة. ولذلك ليس هناك واحد منهم يظن أن أقنوم «الابن» قد دُعي بهذا الاسم، لأنه وُلد بواسطة «الآب»، أو لأنه أحدث منه زماناً، أو لأنه أقل منه مقاماً، لأنهم جميعاً يعلمون من الكتاب المقدس، أن الابن واحد مع الآب والروح القدس في اللاهوت بكل خصائصه وصفاته، كما ذكرنا فيما سلف. ولذلك إذا سمع أحدهم شخصاً يقول إنه يراد ببنوَّة أقنوم «الابن»، معنى من هذه المعانيَ المادية، اعتبر ذلك تجديفاً شنيعاً على اللّه، يصم أذنيه دونه، ويقاومه بكل ما لديه من حزم وعزم.

ذلك أن كلمة «ابن» تُستعمل في غير معناها الحرفي، ليس في هذا الموضع فحسب، بل وفي مواضع كثيرة أيضاً. فنحن نقول عن إنسان ما إنه «ابن مصر» أو «ابن هذا الجيل»، للاشارة إلى موطنه أو زمن وجوده. ولكن بنوة أقنوم «الابن» لا يُراد بها معنى من هذين المعنيين أو غيرهما من المعاني المادية، لأن اسم «الابن» واسمي الأقنومين الآخرين أيضاً، هي أسماء روحية منزهة عن الزمان والمكان، لأنها خاصة باللّه دون سواه، ولذلك قال «الابن» مرة: «لَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ ٱلابْنَ إِلاّ ٱلآبُ، وَلا أَحَدٌ يَعْرِفُ ٱلآبَ إِلاّ ٱلابْنُ» (متى ١١: ٢٧)، فالعلاقة التي بينهما، ليس لها نظير في الوجود على الإطلاق.

وفضلاً عما تقدم من دليل يقضي على هذا الظن قضاءً تاماً، فان التثليث ليس أباً وأماً وابناً، بل هو «الآب والابن والروح القدس». ولذلك لا يمكن أن تكون بنوة «الابن» إلا البنوة الروحية وحدها. وقد أدرك مترجمو الكتاب المقدس هذه الحقيقة، ولذلك ترجموا الآيات الخاصة ببنوة «المسيح» للّه، «يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ» (مرقس ١: ١)، باثبات حرف «الألف» في كلمة «ابن». أما كلمة «ابن» الواقعة بين اسمي والد ومولود، فترجموها «بن» بدون «ا» (لوقا ٣: ٢٤-٣٨)، حسب قواعد اللغة العربية، لأن المسيح ليس ابن اللّه بمعنى أنه مولود من اللّه، بل بمعنى أنه المُعلِن للّه، كما سيتضح فيما بعد.

وهنا يسأل البعض: إذا لم يكن المراد ببنوّة «الابن» معنى من هذه المعاني، فلماذا سُمّي بهذا الاسم؟

الجواب: ليس في الكتاب المقدس آية خاصة عن سبب تسمية هذا الأقنوم بـ «الابن» لأن اللّه لم يقصد بوحيه عن كنه ذاته بحثاً عقلياً، فيصوغه في قالب العلة والمعلول أو السبب والنتيجة، بل قصد به إعلاناً عن حقيقة لا يدركها إلا هو، ولذلك علينا أن نقبلها ونؤمن بها كما هي، فإن «الابن» دُعي بهذا الاسم، لأنه هو الذي يعلن اللّه، فهو صورة اللّه غير المنظور (كولوسي ١: ١٥) وهو الذي أعلن «اَللّٰهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ» (يوحنا ١: ١٨).

وليست للّه صورة بالمعنى المعروف لدينا، لأن اللّه جوهر لا عرض له. ولكن من المؤكد أن تكون له صورة خاصة، روحية لا مادية، لأنه وإن كان جوهراً لا عرض له، إلا أنه ذو تعيُّن خاص، وكل من له تعيُّن خاص له مظهر أو صورة. أما سبب تسمية «الابن» بـ «صورة اللّه»، فهو نفس السبب في تسميته بـ «ابن اللّه» لأنه يعلن اللّه منذ الأزل، كما يتضح فيما يلي.

و «الابن» لم يحصل على هذا الامتياز عن طريق الخلق، كما كان الحال مع آدم الذي خُلق على صورة اللّه، بل إن الابن هو بأقنوميته صورة اللّه منذ الأزل الذي لا بدء له. ولذلك لا يقول الوحي عن هذا الأقنوم إنه خُلق على صورة اللّه، أو إنه صار على صورة اللّه، بل يقول إنه «صورة اللّه»، أي أنه في ذاته هو «صورة اللّه» أو «المعلن للّه».

والاصطلاح «صورة اللّه» يُقصد به في الفلسفة اليونانية «مظهر جوهر اللّه» (عن محاضرات لاهوتية ص ٢٥)، ويُقصد به في الفلسفة اليهودية «حقيقة اللّه من حيث الوجود المعنوي» (موسى بن ميمون ص ٦٧)، ويُقصد به في الفلسفة الاسلامية «ماله نفس الكمال الذي لمسمى اللّه، لأن الصورة هي عينه» (فصوص الحكم ج ٢ ص ٥٥). فـ «صورة اللّه» ليست إذن رسماً أو شيئاً مادياً، بل هي «المعلِن للّه» أو «اللّه معلَناً»، وهذا هو ما قاله الكتاب المقدس من قبل.

فضلاً عن ذلك فان «صورة الشيء» قد وردت أحياناً في الكتاب المقدس بمعنى «ذات الشيء» أو «نصه». قال الرسول بولس لتلميذه تيموثاوس: «تَمَسَّكْ بِصُورَةِ ٱلْكَلامِ ٱلصَّحِيح» (٢تي ١: ١٣)، وقال للعبرانيين: «لأَنَّ ٱلنَّامُوسَ، إِذْ لَهُ ظِلُّ ٱلْخَيْرَاتِ ٱلْعَتِيدَةِ لا نَفْسُ صُورَةِ ٱلأَشْيَاءِ» أي «لا نفس حقيقة الأشياء أو ذاتها» (عبرانيين ١٠: ١)، ولذلك لا غرابة إذا كان المراد بـ «صورة الابن»، «ذات اللّه» أو «اللّه معلناً».

ويظن البعض أنه نظراً لأن الاصطلاح «ابن اللّه» أُطلق على بعض خلق اللّه من الناس والملائكة، فان هذا الأقنوم (حسب زعمهم) يُعتبر واحداً من خلق اللّه. ولكن هذا الظن لا نصيب له من الصواب، لأنه بالرجوع إلى الكتاب المقدس يتضح لنا أن الناس والملائكة دُعوا بوجه عام أبناء للّه، لأن اللّه خلقهم، وأن المؤمنين قد دُعوا بهذا الاسم، بمعنى أقرب إلى اللّه، لأنهم نالوا بالإيمان حياة روحية منه (غلاطية ٣: ٢٦)، جعلتهم في حالة التوافق معه في أفكاره وصفاته.

أما أقنوم «الابن»، فلم يُدع بهذا الاسم لسبب من هذين السببين، بل لسبب يختلف عنهما كل الاختلاف، هو أن الابن يعلن اللّه ويظهره منذ الأزل الذي لا بدء له، قبل وجود أي مخلوق من المخلوقات. فهو من هذه الناحية، فريد في شخصه، وفريد في مركزه، وفريد في مهمته (إقرأ عبرانيين ١: ١-٨). ولذلك أُشير إليه بالوحي بأنه (١) «ابن اللّه الوحيد» (يوحنا ١: ١، ٣: ١٦)، أي الذي ليس له نظير في بنوته للّه على الإطلاق – فلا يكون ملاكاً أو إنساناً أو مخلوقاً، لأن كل واحد من هؤلاء ليس وحيداً، بل له نظير.

و (٢) بأنه ابن الآب بالحق والمحبة (٢يوحنا ٣)، أي أن بنوّته ليست شيئاً مكتسَباً أو منعماً بها عليه، بل أنها حق من حقوقه الذاتية. وشخص مثل هذا لا يكون ملاكاً أو إنساناً أو مخلوقاً ما، لأن كلاً من هؤلاء، إن أُطلق عليه اسم «ابن اللّه» فانما يُطلق من باب النعمة وليس من باب الاستحقاق.

فالاصطلاح «ابن اللّه» ليس إذن لقباً للمسيح، بل هو اسمه بعينه، بينما الاصطلاح «أبناء اللّه» هو مجرد لقب للملائكة والبشر، لأنهم ليسوا في ذواتهم أو في جوهرهم أبناء اللّه. و «اللقب» يُراد به الاشارة إلى علاقة من العلاقات أو صفة من الصفات، أما «الاسم» فيُراد به التعبير عن الشخصية نفسها. ولذلك لا يجوز الخلط بين بنوّة المسيح للّه، وبنوّة الخلائق له، بأي وجه من الوجوه.

فتسمية المسيح بـ «الابن» إذاً ليست بالأمر الغريب، لأن البنوّة في لغتنا تدل فيما تدل عليه، على المشابهة. فإذا رأينا إنساناً يتصرف مثل أبيه في شكله أو أخلاقه، قلنا إنه ابن أبيه. وعلى هذا القياس (مع الفارق الذي لا بدّ منه) يكون أقنوم «الابن» قد دُعي بهذا الاسم، ليس لأنه يشبه اللّه، لأن اللّه لا شريك له ولا شبيه، بل لأنه صورته الذي يعلنه ويُظهره، إذ أن الصورة هي الشيء المنظور الذي يمثل حقيقة كائنة، ظاهرة لنا أم غير ظاهرة. فالابن هو «بهاء مجد اللّه ورسم جوهره» (عبرانيين ١: ٣). أي أنه الضوء المرئي الذي يُظهر مجد اللّه غير المرئي، والرسم المدرَك الذي يعلن جوهر اللّه غير المدرَك.

كما أن هذه التسمية تدل على المقام لأننا نقرأ في (متى ٢١: ٣٧) عن الغني الذي أرسل ابنه إلى الكرّامين قائلاً: «إنهم يهابون ابني» لأن «الابن» يحمل اسم أبيه ومقامه، ولا تدل مطلقاً على الطاعة والخضوع، لأننا نقرأ في (عبرانيين ٥: ٨) عن المسيح أنه «مع كونه ابناً تعلم الطاعة»، أي أن صفة الطاعة والخضوع لم تكن من صفاته كـ «الابن الأزلي»، ولكنه شاء بمحض اختياره أن يطيع، ليتمم مقاصد اللاهوت السامية التي لا يستطيع أن يتممها سواه.

٢ – «ابن اللّه» هو «ذات اللّه»:

بما أنه ليس هناك مجد إلا ويلازمه بهاؤه منذ وجوده، وليس هناك جوهر حقيقي إلا ويلازمه رسمه منذ وجوده أيضاً، وبما أن اللّه أو اللاهوت لا حدَّ له في ذاته،وفي الوقت نفسه ليس له شريك أو نظير، حتى يستطيع إظهاره أو إعلانه منذ الأزل، إذن لا يمكن أن يُظهره أو يُعلنه سواه. وبما أن «الابن» هو الذي يقوم بهذه المهمة منذ الأزل الذي لا بدء له، لأنه بهاء مجد اللّه ورسم جوهره، إذن فهو اللّه، أو اللاهوت معلَناً.

فالمسيحية، على العكس مما يظن بعض الناس، لا تعلن أن اللاهوت أو اللّه كان بدون «ابن» أزلاً، ثم اتخذ له «ابناً» في وقت من الأوقات، بل تعلن أنه متميز بهذا «الابن» أزلاً، وهذا هو عين الصواب، لأنه لا يتفق مع كمال اللّه، ألاّ يكون متجلياً لذاته أزلاً، ثم يتجلى لها بعد ذلك تجلياً عاماً أو كلياً. كما يقول بعض الفلاسفة، لأن تصرفاً مثل هذا – لو حدث – لكان دليلاً على طروء التغيُّر على اللّه، والحال أنه لا يتغير على الاطلاق.

الاصطلاح «ابن الشيء» في اللغة العبرية كثيراً ما يرد بمعنى «ذات الشيء». فمثلاً قول اللّه «بِنْتِ شَعْبِي» أو «ابنة شعبي» (إرميا ٨: ١١) لا يُراد به إلا ذات شعبه، وقوله «ابنة متبدِّديَّ» (صفنيا ٣: ١٠) يُراد به ذات الناس المتبددين من شعبه، ولذلك ترجم هذا القول إلى العربية «متبدديَّ» فقط، بينما تُرجم إلى الانجليزية، كما هو بحرفيته «The Daughter of My Dispersed» كما أن هذا الاصطلاح عينه قد يدل أيضاً في اللغة العربية على «ذات الشيء مُدرَكاً وواضحاً»، فالاصطلاح «بنات الفكر» يُراد به الفكر معلناً وواضحاً، و «ابن الإنسانية» يُراد به الإنسانية متجسمة وظاهرة.

وكما أن «روح اللّه» ليس عنصراً في اللّه، بل هو ذات اللّه، لأن اللّه لا تركيب فيه، كذلك فان «ابن اللّه» ليس كائناً مولوداً من اللّه، بل هو ذات اللّه، لأن اللّه لا يولد ولا يلد. وكل ما في الأمر أن «روح اللّه» دُعي بهذا الاسم، لأنه هو الذي يعلن اللاهوت مع مقاصده بوسيلة روحية. و «ابن اللّه» دُعي بهذا الاسم، لأنه هو الذي يعلن اللاهوت مع مقاصده بوسيلة ظاهرية.

والحق، أن الأمر لم يكن يتطلّب منا مجهوداً لإيضاح معنى الاصطلاح «ابن اللّه» أو إثبات أن المسمَّى به هو عين اللّه، لو أن الاصطلاحات الدينية كانت شائعة بيننا الآن كما كانت وقت وجود المسيح على الأرض، لأن الناس كانوا يفهمون بكل سهولة أن «ابن اللّه» أو «اللّه متجلياً». والدليل على ذلك أن المسيح الذي هو أقنوم الابن، عندما قال لليهود: «أبي يعمل حتى الآن، وأنا أعمل» فهموا من قوله هذا أنه جعل نفسه معادلاً للّه (يوحنا ٥: ١٧، ١٨)، فاضطهدوه أشر اضطهاد إذ اعتبروه مجدّفاً ودعيّاً. ولكنه في الواقع لم يكن مجدّفاً ولا دعيّاً، لأنه لم يكن يجدف أو يدّعي، بل كان دائماً أبداً يقول الحق، والحق وحده، كما يشهد أصدقاؤه وأعداؤه على السواء.

وعندما يقول الانجيل إن المسيح معادل اللّه، كان الغرض من ذلك، أنه في أقنوميته هو «اللّه» أو «المعلن للّه»، فان «اللّه» لا معادل له إطلاقاً، لأنه لا شريك له أو نظير.

٣ – «الابن» ومشكلات الفلاسفة:

مما تقدم، يتضح لنا أنه لو كان الفلاسفة قد أدركوا شيئاً عن وجود أقنوم «الابن» أزلاً، لما قامت في وجوههم مشكلة من المشكلات عن ذات اللّه، وذلك للأسباب الآتية:

  1. إن اللّه أو اللاهوت، وإن يكن منزهاً عن الحدود والأبعاد تنزيهاً مطلقاً، لا يمكن أن يكون بأقنوم الابن كائناً مبهماً يتصف بالصفات السلبية دون الإيجابية، لأنه بهذا الأقنوم يكون واضحاً كل الوضوح، ويكون متصفاً أيضاً بكل الصفات الإيجابية اللائقة به منذ الأزل.
  2. إن اللّه وإن يكن واحداً لا تركيب فيه، لا يمكن أن يكون قد مرّ في أي دور من أدوار التطور ليتجلى لذاته أو يعرفها، لأنه بأقنوم «الابن» يكون متجلياً لها وعارفاً بها كل المعرفة منذ الأزل.
  3. إن اللّه وإن يكن منزهاً أزلاً تنزيهاً تاماً عن كل شيء سوى ذاته بسبب تفرّده بالأزلية، لا يمكن أن يكون قد طرأ عليه تغيُّرٌ ما عندما خلق الكائنات، لأنه بأقنوم الابن تكون أعيانها (أو صورها ومثلها، كما يقول أفلاطون) موجودة لديه منذ الأزل، لأن الابن هو صورة اللّه، الذي يعلن ذات اللّه وما بها من أفكار ومقاصد.ويقيناً إن جميع الكائنات كان لها وجود لدى اللّه (اللاهوت) أزلاً، وذلك من حيث أعيانها أو صورها، لأنه ليس من المعقول أن يكون قد خلقها اعتباطاً أو جزافاً، أو بواسطة فيض صدر عنه بالطبيعة أو الضرورة كما قال بعض الفلاسفة، بل أن يكون قد خلقها بحكمة وفطنة وإرادة حرة طليقة.
  4. لكن هل كان من الممكن أن يكون لهذه الكائنات مثل هذا الوجود لو كانت وحدانية اللّه وحدانية مجردة لا صفة لها، أو مطلقة لا عمل لصفاتها أزلاً، أو بتعبير آخر: لو لم يكن متميزاً بما يعلن ذاته وصفاته وأفكاره أزلاً؟ الجواب: طبعاً لا! وإذا كان الأمر كذلك،فهل يمكن أن يكون هناك مجال للاستغراب، إذا أعلن لنا الكتاب المقدس أن وحدانية اللّه هي جامعة مانعة، أي أنه ليس أقنوماً واحداً بل أقانيم، وأن جميع صفاته كانت بالفعل أزلاً، وأنه في أقنوم «الابن» الذي يعلن ذات اللّه وصفاته وأفكاره قد «خُلِقَ ٱلْكُلُّ: مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى ٱلأَرْضِ» (كولوسي ١: ١٦، ١٧)؟!
  5. إن اللّه وإن يكن منزهاً أيضاً أزلاً عن العلاقة بغيره تنزيهاً تاماً، بسبب تفرُّده بالأزلية، لا يمكن أن يكون قد طرأ عليه تغيُّر ما عندما دخل في علاقة مع كائنات لم يكن لها وجود من قبل، لأنه بأقنوم «الابن» تكون له بها علاقة أزلاً، لوجود أعيانها أو صورها لديه أزلاً، كما مرَّ بنا.هذا فضلاً عن العلاقة الأزلية الكائنة بينه وبين ذاته، بسبب جامعية وحدانيته.
  6. إن اللّه وإن يكن غير متحيّز بمكان أو زمان، الأمر الذي لا يدع لنا نحن المحدودين مجالاً للاتصال به، لم يستدع الأمر أن يمرّ في تعينات خاصة، أو يخلق وسطاء بينه وبيننا نصل بهم إليه، لأننا في أقنوم «الابن» نستطيع أن نعرفه ونتصل به، ونجد فيه مقصدنا الذي تسكن إليه نفوسنا وتطمئن له قلوبنا.

٤ – الاصطلاح «ابن اللّه» في التوراة:

يظن البعض أن المسيحية هي أول من قال بوجود أقنوم «الابن» لكن الحقيقة غير ذلك، لأنه بالرجوع إلى التوراة، نرى إشارات واضحة عن هذا الأقنوم. فقد قال الله على فم داود النبي سنة ١٠٠٠ ق.م. عن شخص يجب أن تخضع له كل ملوك الأرض «أنت ابني» (مزمور ٢: ٧)، كما خاطب أجور، أحد رجال اللّه الأتقياء، صديقاً له سنة ٩٥٠ ق.م. قائلاً له بالوحي: «مَن ثَبَّتَ جَمِيعَ أَطْرَافِ ٱلأَرْضِ؟ مَا ٱسْمُهُ وَمَا ٱسْمُ ٱبْنِهِ إِنْ عَرَفْتَ؟» (أمثال ٣٠: ٢-٥). ولذلك كان علماء التوراة يعرفون تمام المعرفة أن للّه ابناً، وهذا الابن هو المعلِن له، أو هو ذاته مُعلَناً وظاهراً، كما ذكرنا في البند الثاني.

٥ – الاصطلاح «ابن اللّه» في الفلسفة:

استنتج بعض الفلاسفة، الذين كانوا يؤمنون باللّه، حتى قبل مجيء السيد المسيح إلى الأرض، أن اللّه أو اللاهوت لا يتصل بالعالم مباشرة، بل بواسطة كائن أطلق عليه بعضهم اسم «ابن اللّه»، ولكنهم ذهبوا إلى أن «ابن اللّه» هذا، هو عقل انبثق من اللّه. فقد قال فيلون اليهودي: «اللّه من البُعد عن كل ما يدركه العقل، بحيث لا نستطيع أن نعلم عنه شيئاً… ولذلك فعنايته بالعالم ليست مباشرة، بل تتخذ وسطاء، والوسيط الأول هو اللوغوس أو ابن اللّه». أما في العصر الحديث، فقد أدرك معظم فلاسفة المسيحية أن «ابن اللّه» هو «اللّه» أو «اللّه معلَناً» (كما سيتضح في الباب السادس). ومما تجدر ملاحظته في هذه المناسبة، أن المسيحية لم تقتبس الاعتقاد بوجود «ابن اللّه» من فيلون، بل أن فيلون اقتبس اعتقاده من التوراة، والمسيحية أتت مكملة للتوراة ومفسرة لنبواتها ورموزها.

٦ – ظهور اللّه لنا في «الابن»:

بما أن هذا الأقنوم هو الذي يُظهر اللّه أو اللاهوت، كان أمراً بديهياً أنه إذا أراد اللّه أن يعلن ذاته يتمّم ذلك بواسطة أقنوم «الابن» لأن اعتزال اللّه عن خليقته، وعدم إعطائه إياها فرصة لتعرفه معرفة حقيقية واضحة، لا يتفق مع الكمال الذي يتصف به. فاللّه الذي لا يُرى ولا يُعرف، يصبح من الميسور لنا رؤيته ومعرفته في هذا الأقنوم. وهذا هو ما حدث فعلاً، فقد ظهر هذا الأقنوم في شخص المسيح، إذ قيل بالوحي: «اَللّٰهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابْنُ ٱلْوَحِيدُ ٱلَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ ٱلآبِ هُوَ خَبَّرَ» (يوحنا ١: ١٨).

وكلمة «حضن» لا يُقصد بها المعنى الحرفي بل الروحي، لأن اللّه ليس له حضن بالمعنى المادي. والمعنى الروحي للحضن هو التوالف والحب والاتحاد، وما يتبع ذلك من الإحاطة بكل الأسرار والمقاصد الباطنية. والآية لا تقول: إن الابن كان في حضن الآب، أو سيكون في حضنه، بل تقول: «الذي في حضن الآب». ومعنى ذلك أن حضن الآب هو مركز «الابن» الدائم. فهو مركزه قبل ظهوره على الأرض، وأثناء وجوده عليها، وبعد انتقاله منها – وهذا دليل واضح على أن وحدة الأقانيم هي وحدة متصلة غير منفصلة.

كما أن كلمة «خبَّر» هنا، ترد في اللغة اليونانية بمعنى «كشف» أي «كشف ما أُغلق على البشر فهمه من جهة اللاهوت».

وقيل أيضاً عن المسيح إنه اللّه الظاهر في الجسد (١تيموثاوس ٣: ١٦)، وإن فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً (كولوسي ٢: ٩). وتعبير «ملء اللاهوت» اصطلاح ديني يُراد به التعبير باللغة التي نفهمها، عن اللاهوت في كامله، إن جاز أن نستعمل عبارة «في كامله» مع اللاهوت. والقول إنه يحل فيه جسدياً هو كما كان يحل فيه روحياً «الابن» الأزلي، إن جاز أن نستعمل الفعل «يحل» في هذه المناسبة.

وقد أثبتت الحقيقة الواقعة صدق أقوال الوحي، كما يتضح في نهاية هذا الباب.

٧ – أعمال «الابن» الخاصة بنا:

نظراً لأن الأقانيم واحد في اللاهوت، فمن البديهي أنهم يتحدون معاً في القيام بجميع أعماله. ومن الناحية الأخرى، نظراً لأن كل أقنوم متميز عن الآخر، فمن البديهي أيضاً أن يقوم كل منهم بصفة خاصة، بإبراز العمل الذي يتناسب مع أقنوميته. فنرجو ملاحظة ذلك عند التأمل في عمل كل أقنوم من الأقانيم. ولما كان أقنوم «الابن» هو الذي يبرز خصائص اللاهوت ومقاصده، من الوجود غير المنظور إلى الوجود المنظور، إذن لا غرابة إذا علمنا أنه هو الذي خلق العالم ويعتني به (كولوسي ١: ١٦)، وهو الذي يُظهر عواطف اللّه ومقاصده من نحونا، وهو الذي يرعانا ويدبر أمورنا (متى ٢٨: ٢٠، عبرانيين ٤: ١٥، ١٢: ٦-١٠)، وغير ذلك من الأعمال الخاصة بعلاقة اللّه الظاهرة بنا.

٨ – أقنوميته:

بما أن «الابن» يقوم بالأعمال المذكورة، إذن فهو ليس صفة، بل أقنوم، كما ذكرنا في الباب السابق.

ثانياً – «الكلمة»

يُدعى أقنوم «الابن» أيضاً «الكلمة» فقد قال الوحي عن المسيح إن اسمه «كلمة اللّه» (رؤيا ١٩: ١٣)، وقال أيضاً عنه «فِي ٱلْبَدْءِ كَانَ ٱلْكَلِمَةُ، وَٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللّٰهِ، وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللّٰهَ. هٰذَا كَانَ فِي ٱلْبَدْءِ عِنْدَ ٱللّٰهِ» (يوحنا ١: ١، ٢).

وقد أدرك شيئاً من هذه الحقيقة فيلون الفيلسوف اليهودي، الذي وُلد سنة ٤٠ ق.م، فقد قال إن «الكلمة» هو «ابن اللّه» (تاريخ الفلسفة اليونانية ص ٣٢٣)، ويرجع السبب في ذلك إلى أنه كان يستقي آراءه من التوراة، والتوراة كانت قد ذكرت هذا الأقنوم مرة باسم «الابن» ومرة أخرى باسم «الكلمة».

والقول «في البدء كان الكلمة» يختلف في المقصود منه عن كلمة «البدء» الواردة في الآية «فِي ٱلْبَدْءِ خَلَقَ ٱللّٰهُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ» (تكوين ١: ١)، فانها في التكوين يُقصد بها بدء خليقة اللّه، بينما في يوحنا ١: ١ يُقصد بها تاريخ سابق لبدء خليقته، أو بتعبير آخر سابق لكل شيء يمكن أن يُتَّخذ قياساً للزمن في نظر الناس وغير الناس، لأن هذا هو ما يُستنتج من قول الوحي بعد ذلك « كل شيء به (أي الكلمة) كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان» .

ولذلك يُقصد بـ «البدء» هنا الأزلية بعينها. ومما يؤكد لنا صحة ذلك (أ) يشهد كل جزء من الكتاب المقدس أن «الابن» أو «الكلمة» أزلي، كما سيتبين بالتفصيل في الباب التالي. (ب) أن الكلمة المترجمة «البدء» هي في الأصل اليوناني «أرخي»، و يُراد بها عادة «قبل أول كل شيء» ولذلك تُرجمت في بعض نسخ الكتاب المقدس الانجليزية (originally) أي «في الأصل» و (in the very beginning) أي «في ذات البدء» أو «في البدء الذي لا بدء قبله»

. وطبعاً لا مجال للاعتراض على أن معنى «البدء» الوارد في (تكوين ١: ١)، يختلف عن معنى «البدء» الوارد في (يوحنا ١: ١)، لأن الكلمة الواحدة تُستعمل أحياناً لأكثر من معنى واحد، ويُفهم كل معنى بالقرينة الملازمة لهذه الكلمة.

مما تجدر ملاحظته في هذه الآيات (أ) أنه لا يقال فيها: في البدء خُلق «الكلمة» أو في البدء وُجد «الكلمة»، بل يقال «في البدء كان الكلمة»، أي أن البدء (أو الأزل) لم يكن، حتى كان «الكلمة» موجوداً، ولذلك فإن البدء هنا ليس هو بدء وجود الكلمة أو ظهوره. وإذا كان الأمر كذلك، فإن «الكلمة» لا يكون منذ الأزل فحسب، بل يكون أزلياً، أو بالحري يكون هو الأزلي، لأنه ليس هناك أزلي إلا واحد لا سواه. (ب) أن العبارة «والكلمة كان عند اللّه» تدل على أن «الكلمة» كان ملازماً للّه أو اللاهوت.

وبما أن اللّه أو اللاهوت لا بدء له، فمن البديهي أن يكون «الكلمة» الملازم له لا بدء له أيضاً. (ج) يختلف الفعل «كان» في الأربع فقرات الأولى، في اللغة اليونانية القديمة عن الفعل «كان» الوارد في الفقرتين الأخيرتين. فالأول هو «إين»، ويراد به الكينونة الدائمة أو الوجود الدائم أي «كان ولا يزال»، أما الثاني فهو «اجنتو»، ويُراد به الكينونة التي تمت في الزمان أو الحدوث والصيرورة فيه (Liddle and Scott Dict.) الأمر الذي يدل على أن «الابن» لم يوجد كمخلوق، بل كان موجوداً منذ البدء أو الأزل، ولا يزال موجوداً إلى الآن، كما سيكون موجوداً إلى الأبد. وقد أشار إلى هذه الحقيقة الأستاذ مولر، في كتابه (مختصر تاريخ الكنيسة ص ٢١٨).

«والكلمة كان عند اللّه» هنا لا يُقصد بها المكانية أو الملكية، بل يُقصد بها الصلة الأزلية التي بين اللّه (أو اللاهوت) وبين كلمته. وإذا رجعنا إلى اللغة اليونانية القديمة، وجدنا أنه يعبر عن «عند» هذه (بكلمتين) هما «بروس، تون»، ومعناهما كما يقول أساتذة هذه اللغة، يدل على الارتباط والتوافق. ولذلك إذا رجعنا إلى النسخة الإنجليزية مثلاً، وجدنا انه يعبر عنها بكلمة «صهفا» أي «مع» وهي تدل أيضاً على الارتباط والتوافق. وفي اللغة العربية تدل «المعيّة» معنوياً على هذا المعنى بعينه، فنحن نقول مثلاً «الشعب مع الحكومة» بمعنى أنه متوافق معها في أفكارها ومقاصدها.

ومن هذه الآية يتضح لنا أن «الكلمة» هنا ليس كائناً غير اللّه، بل هو اللّه، أو بالحري هو أقنوم من أقانيمه.

ولكي نعرف شيئاً عن «الكلمة» هنا، علينا أن نتأمل في النقط الآتية:

١ – معنى الاصطلاح «الكلمة» أو «كلمة اللّه»:

«الكلمة» بمعنى اللفظ أو العبارة أو المقالة وفي هذه الحالة تكون مؤنثة، وتكون الأفعال والصفات والضمائر الخاصة بها مؤنّثة أيضاً. لكن المراد بـ «الكلمة» هنا، ليس معنى من هذه المعاني، بل المراد، كما يتبين من نص الآية، هو اللّه ذاته، أو بالحري أقنوم من أقانيمه. ولذلك لا يأتي الفعل المستعمل مع «الكلمة» مؤنثاً بل مذكراً.

كما أننا إذا رجعنا إلى اللغة اليونانية، التي هي اللغة الأصلية للعهد الجديد، وجدنا أن اللفظ، المترجم إلى العربية بـ «الكلمة» للدلالة على هذا الأقنوم، هو «لوغوس». و «لوغوس» اصطلاح يوناني يُراد به «المعلِن للّه» أو «العقل المنفِّذ لمشيئة اللّه والقائم بتدبير العالم». أما اللفظ المترجم بـ «الكلمة» للدلالة على «القول» العادي، فهو «لكسيز»، ولذلك ليس هناك مجال للظن بأن كلمة «الكلمة» هنا، يُراد بها معنى من معاني الكلمة العادية.

وإذا رجعنا إلى اللغة العبرية أيضاً، وجدنا بها لفظين مختلفين تُرجما إلى اللغة العربية «الكلمة» وهما «إمرا» و «دابار». والأول مؤنث ومعناه الحرفي «أمر»، ويُراد به «القول» العادي، أما الثاني فمُذكَّر ومعناه الحرفي «تدبير»، ويُراد به «العلم أو المعرفة أو القوة الفعالة غير المنظورة» (قاموس العهد الجديد للدكتور كتل الألماني ج ٤ ص ٩٣). واللفظ الأخير يشبه في معناه لفظ «لوغوس» اليوناني، إلى حدّ بعيد. ومما تجدر الإشارة إليه في هذه المناسبة أن بعض علماء المسلمين قد قال إن «كلمة اللّه» هي العليا، وإن تركيب الكاف واللام والميم (أي الحروف الأساسية للـ «كلمة» بحسب تصريفاتها الممكنة) تفيد القوة والشدَّة (الدين والشهادة ص ١٣٥).

٢ – الفرق بين «الكلمة» و «أثر الكلمة»:

يقول البعض إن كل شيء خُلق بكلمة اللّه، يُدعى كلمة اللّه، ولذلك يظنون أن المسيح دُعي «كلمة اللّه» لأنه حسب رأيهم خُلق بكلمة اللّه. لكن هذا الظن لا نصيب له من الصواب لسببين:

  1. إن لفظ «الكلمة»، اسم من الأسماء التي يتفرَّد بها المسيح، فموسى لم يُدع «كلمة اللّه»، بل دُعي «كليم اللّه»، وداود لم يُدع «كلمة اللّه»، بل دُعي «نبي اللّه»، وإبراهيم لم يُدع «كلمة اللّه»، بل دُعي «خليل اللّه». وإذا تأملنا سِيَر جميع الرسل والأنبياء، لا نرى واحداً منهم سُمّي «الكلمة» أو «كلمة اللّه»، حتى أن آدم الذي خُلق بكلمة اللّه رأساً، لم يُدعَ بهذا الاسم أو يلقَّب به.ونلاحظ أن «الكلمة» ليس لقباً من ألقاب المسيح بل إنّه نفسه هو «الكلمة»، ولذلك لو فرضنا جدلاً أن شخصاً غيره لُقب بـ «الكلمة»، يظل المسيح وحده هو الكلمة الذي لا شبيه له، لأنه هو الذي يعلن اللّه منذ الأزل الذي لا بدء له.
  2. هناك فرق كبير بين «كلمة اللّه» و «أثر كلمة اللّه»، فالمخلوقات ليست «كلمة اللّه»، بل هي «أثر كلمة اللّه»، لأنها خُلقت بكلمة اللّه، ولذلك ليس هناك شخص عاقل، يقول إن كلاً من الإنسان والحيوان والنبات والجماد، هو «كلمة اللّه». كما أن الكتاب المقدس يفرّق بين «كلمة اللّه» و «أثر كلمة اللّه»، فلا يقول إن الخليقة هي كلمة اللّه، بل يقول إنها خُلقت بـ «كلمة اللّه» (مزمور ٣٣: ٦)، أو بتعبير آخر إنها أثر من آثار «كلمة اللّه».

٣ – السبب في تسمية أقنوم الابن بـ «الكلمة»:

كلنا يعلم أن «الكلمة» هي «لسان حال» صاحبها الذي يعلنه ويظهره. ولذلك لا غرابة إذا كان الوحي قد دعا الأقنوم الذي يعلن اللاهوت منذ الأزل بـ «الكلمة». وقد أشار السيد المسيح مرة إلى هذه الحقيقة، فقال عن نفسه: «اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى ٱلآبَ» (يوحنا ١٤: ٩)، كما أشار إليها بولس الرسول بعد ذلك فقال «لأَنَّ ٱللّٰهَ ٱلَّذِي قَالَ أَنْ يُشْرِقَ نُورٌ مِنْ ظُلْمَةٍ، هُوَ ٱلَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا، لإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ ٱللّٰهِ فِي وَجْهِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (٢كورنثوس ٤: ٦).

ولزيادة الايضاح نقول مثلاً: إن الآية «قال اللّه نعمل الإنسان على صورتنا كشَبهنا» تدل على أن اللّه، قبل أن يخلق الانسان، كان له نشاط فكري ذاتي، عبَّر عنه موضوعياً بالقول «وقال اللّه…. ». وطبعاً لولا تميُّز اللّه أو اللاهوت بأقنوم «الكلمة» أو الأقنوم المعبّر، لما كان هناك مجال للإفصاح عن هذا النشاط الفكري الذاتي، ولما كان هناك أيضاً مجال لإبراز أو تحقيق موضوعه.

٤ – حاجتنا الماسة إلى «الكلمة»:

كلنا يعلم أن استيعاب المعاني وإدراكها لا يمكن أن يتم إلا اختيارياً، فمثلاً إذا حدثنا شخص عن الرحمة أو العدالة، فإن هذه أو تلك تظل معاني غير مفهومة ولا مدْرَكة لديه، حتى يعبّر عن كل منهما تعبيراً اختيارياً. وعلى هذا القياس، مع الفارق الذي لا بد منه، نقول: لو كان اللّه قد اقتصر في إعلانه عن نفسه، على الكلام الذي كان يُوحي به إلى أنبيائه، لما كان هذا بكافٍ لنعرفه المعرفة الصحيحة، لأننا لقصورنا الذاتي لا نستطيع أن ندرك مثلاً من هو اللّه في قداسته المطلقة أو محبته المطلقة، مهما بلغت الدقة في وصفه، لأن إدراكنا محدود، والمحدود لا يدرك إدراكاً كافياً أي معنى من معاني غير المحدود.

وتطبيقاً على هذه الحقيقة نقول: لو كان اللّه قد اكتفى مثلاً بالإعلان أنه لقداسته المطلقة يكره الخطيئة كراهية مطلقة، لما كان من الممكن لأي إنسان منا أن يدرك المعنى المتضمن في هذه القداسة، حتى يعبّر عنها موضوعياً. ولذلك كان من الضروري لنا، أن يتجلى اللّه في «الكلمة» ليفصح لنا عن غير المفهوم أو غير المدرَك، فينقله من المعنى المطلق إلى الفعل الاختباري.

وهذا ما حدث فعلاً. ولذلك استطعنا بواسطة «الكلمة» أن ندرك أن من حفظ كل وصايا اللّه، وإنما عثر في واحدة، فقد صار مجرماً في الكل، وأن الغضب الباطل هو القتل بنفسه، وأن نظرة الاشتهاء هي الزنا بعينه، وأن السباب جريمة تستحق عذاباً أبدياً، وأن مجرد التفكير في الإثم هو شرٌّ كاقترافه تماماً، ولذلك فإن هذا التفكير يحرم صاحبه من الاتصال باللّه والتمتع به. لا بل وأدركنا أن عدم فعل الخير خطيئة كفعل الشر تماماً (يعقوب ٤: ١٧، متى ٥: ٢١، ٢٣، ٢٨، ١٥: ١٩).

وكذلك لو كان اللّه قد اكتفى بإعلان أنه يحبنا محبة مطلقة، لما كان من الممكن لأي إنسان منا أن يدرك المعنى المتضمن في هذه المحبة. ولكن عندما ظهر «الكلمة» بيننا، استطعنا أن ندرك شيئاً عن هذه المحبة، فقد رأيناه يقابل عدواننا بالمحبة، وتمرُّدنا بالشفقة، وإساءتنا بالإحسان، وخطايانا بالصفح والغفران. وعلى الرغم من جحودنا وعدم تقديرنا لأعماله هذه، لم يكلّ من خدمتنا أو الاهتمام بأمورنا أو مواساتنا في ظروفنا.

فكان يشفي مرضانا، ويقيم موتانا، ويشبع الجياع منا، كما كان يبكي مع الباكين ويفرح مع الفرحين، وأخيراً بذل نفسه فدية عنا حباً بنا وعطفاً علينا، لننجو بقبولنا إياه من قصاص الخطيئة المخيف، وننعم بالحياة الأبدية التي نتوق إليها. هذه الأمور لم نكن نصدقها أو يصدقها غيرنا، لولا أنه ظهر بيننا وحققها بوضوح لنا.

فبالكلمة، وبه وحده، استطعنا أن نعرف أن «ٱللّٰهَ مَحَبَّةٌ» (١يوحنا ٤: ٨)، واستطعنا تبعاً لذلك أن نحبه ونتوق إليه، ونجد لذّتنا في طاعته والتعبُّد إليه، كما استطعنا بنعمته فينا أن نكره ليس الخطايا الكبيرة فحسب، بل وجميع الأعمال والأفكار والأقوال التي لا تتفق مع قداسته (١يوحنا ٥: ١٨). فضلاً عن ذلك لم يعد اللّه، الإله المحفوف بالغموض والإبهام، كما كنا نتصوره من قبل، بل الإله المعروف لقلوبنا والمدرِك لنفوسنا، الذي نستطيع بنعمته أن نتصل به ونتوافق معه في أفكاره وصفاته، في هذا العالم والعالم الآخر أيضاً، وهذه هي عين الحياة، والحياة الأبدية.

٥ – اصطلاح «الكلمة» في التوراة:

يظن البعض أن المسيحية هي أول من قال بوجود «الكلمة»، لكن الحقيقة غير ذلك. لأننا إذا رجعنا إلى التوراة، وجدنا بها آيات كثيرة تشهد عن وجوده، وعن قيامه بالأعمال التي لا يقوم بها إلا اللّه. فمثلاً جاء بها: «بِكَلِمَةِ ٱلرَّبِّ صُنِعَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ»(مزمور ٣٣: ٦)، وأيضاً: «أَرْسَلَ كَلِمَتَهُ فَشَفَاهُمْ» (مزمور ١٠٧: ٢٠). أما سليمان الحكيم، فكان يعبر عن هذا الأقنوم باصطلاح آخر، يدعوه «الحكمة»، والحكمة والعقل والكلمة، شيء واحد بالنسبة إلى اللّه. ولذلك كان يشهد أنها منذ الأزل، وأنها تحيي النفوس وترشدها إلى الحق (أمثال ٨: ٣٢-٣٦) ؟

٦ – اصطلاح «الكلمة» في الفلسفة:

كان الفلاسفة الذين يؤمنون باللّه، في كل مذهب من المذاهب، يعتقدون أن العالم خُلق بالعقل أو الحكمة أو الكلمة، كما يتضح مما يلي:

  1. عند الأمم الشرقية القديمة: كان قدماء المصريين يعتقدون أن فتاح إلههم هو الفؤاد، وأن «كلمته» هي الخلق والتكوين (أو قوة الخلق والتكوين). وكان الفرس يقولون إن اللّه خلق العالم بـ «الكلمة»، وأن الروح بعد مفارقتها للجسد ترقى سبع درجات حتى تعرف «كلمة اللّه» الخالقة.
  2. عند اليونان: قال هيرقليطس إن «الكلمة» هي الروح الظاهر أثره في كل ما في الوجود الخارجي من حياة، وهي أيضاً مبدأ الحياة والإرادة الإلهية التي يخضع لها كل ما في الوجود، ولذلك فإن جميع أعمال اللّه تُنسب إليها. وقال أيضاً أن الدين الحق، هو مطابقة الفكر الإنساني «للكلمة».وقال انكساغوراس إن «الكلمة» هي العقل الإلهي أو القوة المدبرة للكون، وهي الواسطة بين الذات الإلهية والعالم، وقال أيضاً إن العامل في الطبيعة هو «الكلمة»، وهو عليم بكل شيء، متحرك بذاته لا بواسطة. وهو جوهر مجرَّدٌ لا تركيب فيه، خالد، واحد لا يتعدد. وهو اللّه، أو الصلة بين اللّه والعالم، أو اللّه في علاقته مع العالم.وقال زينون إن العقل الحق أو «الكلمة» هو المدبر للكون، وهو الذي يمدّ العقول الجزئية بكل ما فيها من نطق وعلم.
  3. عند اليهود: قال فيلون إن «الكلمة» هو البرزخ أو الصلة بين اللّه والعالم وهو الوسيط الأول والصورة الإلهية وحقيقة الحقائق، وبدونه لا تستطيع نفوس البشر أن تصعد إلى اللّه أو تتصل به.
  4. عند المسيحيين: قال القديس بطرس الأول إن «الكلمة» هو حلقة الاتصال بيننا وبين اللّه، فبدونه لا نستطيع أن نعرفه أو نقترب إليه. وقال القديس الكسندر الأول إن «كلمة اللّه» هو صورة اللّه غير المنظور، ولذلك فهو الذي يعلنه ويظهره. وقال القديس انسلموس بهذا المعنى عينه إن «أقنوم الكلمة» هو الذي يعلن اللّه ويظهره. وقال القديس توما الأكويني إن «أقنوم الكلمة» هو الذي خلق العالم بأسره.
  5. عند المسلمين: قالت الأشاعرة إن «كلمة التكوين»، شخصية لها قوة الخلق والتكوين، وبواسطتها تعمل الإرادة الإلهية عملها. فاللّه لم يخلق ابتداءً بل بواسطة، وهذه الواسطة هي «كلمته»، وبذلك أسندت الأشاعرة الخلق والتدبير، كما يقول الدكتور أبو العلا عفيفي، إلى شخصية أخرى غير اللّه.

أما المسيحيون فيسندون الخلق إلى «الكلمة»، لأنهم يعتقدون أنه هو اللّه، أو بالحري أقنوم من أقانيمه.

وقال الإمام الغزالي ما ملخصه: إن «المُطاع» الوارد ذكره في الآية «مُطْاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ» (سورة التكوير ٨١: ٢١) موجود غير الذات الإلهية المنزّهة. وهو يحرّك الأفلاك ويدبّر الكون، وعن طريقه يتوصّل العبد إلى معرفة الموجود المنزّه عن كل ما أدركه البصر والبصيرة. وهذا الموجود «أي المُطاع» ليس هو اللّه، ولكنه أيضاً ليس شيئاً غير اللّه، بل إن نسبته إلى اللّه، هي نسبة الشمس إلى النور المحض. وهو أيضاً العقل الإلهي الظاهر أثره في الوجود، والذي به يتصل الإنسان بواسطة الوحي والإلهام – فيكون «المُطاع» لذلك، هو اللّه متجلّياً أو معيّناً أو عاملاً وفاعلاً، أو كما يقول المسيحيون: هو «أقنوم الكلمة».

وقالت الإسماعيلية الباطنية والقرامطة إن «القطب» أو «الهُوَ» أو «الكلمة» هو أداة الخلق في الكون، ومنبع العلم الباطني والوحي.

وقال ابن العربي ما ملخصه – (ما بين قوسين هو من عندنا للتوضيح) – : إن «القطب» هو الأصل الذي يُستمَد منه كل علم إلهي، ويُدعى حقيقة الحقائق (بالنسبة إلى كل ما هو فانٍ وزائل)، ويُدعى الكتاب (بالنسبة إلى إلمامه بكل شيء في الوجود)، ويُدعى العقل الأول أو الروح الأعظم (بالنسبة إلى كونه المبدع لكل شيء).

وهو باطن الألوهية والألوهية ظاهره. (قال ابن العربي في موضع آخر إن باطن اللّه وظاهره هما واحد، لأنه هو عين ما بطن وعين ما ظهر) وهو الحق أو اللّه متجلّياً لا في زمان أو مكان معيّن.وهو العقل الإلهي الذي هو عين الذات لا غيره، وبه لا بذاته يعقل الحق نفسه. وهو أول تجلٍّ للحق بعد مرتبة التنزيه المطلق، وأول صورة ظهر فيها الحق وخاطب نفسه، وهو لا يقبل التعريف أو التحديد، وهو العلم الإلهي، بمعنى أنه العلم والعالم والمعلوم، وهو كمال محض، وتُعزَى إليه قوة الخلق والتدبير، لأنه الواسطة بين اللّه والعالم، فيكون «القطب» إذن، هو بمثابة «أقنوم الكلمة» عند المسيحيين.

قبل ظهور ابن العربي بألف سنة تقريباً، كان الكتاب المقدس قد دعا المسيح، «الحامل لكل شيء»، و «الذي فيه وبه وله خُلق الكل»، و «صورة اللّه الذي يعلن اللّه»، و «الحق»، و «الحياة» (أفسس ٤: ١٣، كولوسي ١: ١٥، ١٦، ويوحنا ١٤: ٦).

وبالطبع لا يقصد ابن العربي بهذا الكائن أقنوم «الكلمة» أو بتعبير آخر السيد المسيح، بل يقصد به «الحقيقة المحمدية»، وقد أشارت كثير من الكتب الدينية أيضاً إليها، فجاء بها: «مكتوب على باب الجنة قبل أن تُخلق السموات والأرض بألف سنة، لا إله إلا اللّه، محمد رسول اللّه» و «لما خلق تعالى العرش، كتب عليه بقلم من نور، طول القلم ما بين المشرق والمغرب، لا إله إلا اللّه، محمد رسول اللّه» (الاتحافات السنية بالأحاديث القدسية ص ١٧٣ و ١٨٧)،

و «قال تعالى يا محمد جعلت اسمك مع اسمي يُنادى به في جوف السماء» (الاسراء معجزة كبرى ص ٤٧)، و «لما تعلقت إرادة الحق تعالى بايجاد خلقه، أبرز الحقيقة المحمدية من أنواره، ثم سلخ منها العوالم كلها. وما زال ينتقل الزمان حتى ظهر محمد صلى اللّه عليه وسلم بكليته جسماً وروحاً»، و «لما خلق اللّه آدم عليه السلام ألهمه أن قال: يا رب، لِمَ كنيتني أبا محمد؟ فقال له تعالى: يا آدم، ارفع رأسك، فرفع رأسه.

فرأى نور محمد صلى اللّه عليه وسلم في سرادق العرش. فقال: يا رب ما هذا النور؟ فقال: هذا نور نبي من ذرّيتك اسمه في السماء أحمد وعلى الأرض محمد. لولاه ما خلقتك ولا خلقت سماءً ولا أرضاً»، ولذلك يناجيه الشاعر قائلاً:

عالم الإجمال أنت بحره كان كل الخلق فيك مُجْمَلا
كل موجود فأنت سرُّه وبأمر اللّه منك فُصِّلا


ولذلك أيضاً يوصف محمد بأنه «بحر علم اللّه» و «نور عرش اللّه» و «أفضل خلق اللّه» و «أول خلق اللّه» (الأنوار المحمدية من المواهب اللدنية ص ١-١٥، والاسراء معجزة كبرى ص ١١، ١٨، ٣٥، والدين والشهادة ص ١٨٢). وإذا كان الأمر كذلك، كانت «الحقيقة المحمدية» في نظر الفلاسفة المسلمين، تشبه إلى حد ما أقنوم «الكلمة» في نظر المسيحيين.

ويقول بعض العلماء إن ابن العربي قد اقتبس آراءه من المسيحية، ويقول البعض الآخر إنه اقتبسها من مصادر إسلامية، ولكل من الفريقين أدلته وبراهينه. ولكن الحقيقة التي لا يختلف فيها اثنان، هي أن ما قاله ابن العربي عن الحقيقة المحمدية، يشبه ما قالته الأشاعرة عن «الكلمة»، والاسماعيلية الباطنية والقرامطة عن «القطب»، والامام الغزالي عن «المُطاع»، الأمر الذي يدل على أنهم يعتقدون جميعاً بوجود كائن ما، ليس هو اللّه، ولكنه أيضاً ليس شيئاً سوى اللّه، وهذا الكائن هو الذي يعلن اللّه، ويتمم مقاصده.

هذه هي أقوال الفلاسفة، وهي في جملتها تكاد تكون واحدة، ومنها يتضح لنا ما يلي:

  1. إنهم على اختلاف الأديان التي ينتمون إليها، قد أجمعوا على وجود كائن ليس هو اللّه، ولكنه أيضاً ليس شيئاً سوى اللّه، لأنه هو الذي يعلن اللّه، ولا يقوم بذلك إلاّ اللّه وحده. وهذا الكائن كمال محض ولا يقبل التعريف أو التحديد، لأنه مجرّد خالد. وهو خالق العالم والمعتني به وصاحب السلطة عليه، وبه وحده نستطيع الاتصال باللّه، لأن اللّه أو اللاهوت أسمى من أن يُدرَك أو يُدنى منه مباشرة.
  2. إن من يدعوه فلاسفة الفرس والمصريين بـ «الكلمة» ويدعوه فلاسفة اليونان بـ «اللوغوس» أو «العقل الإلهي»، ويدعوه فلاسفة اليهود بـ «اللوغوس» أو «البرزخ الكائن بين اللّه والعالم»، ويدعوه فلاسفة المسيحيين بـ «الكلمة» أو «العقل الإلهي»، ويدعوه فلاسفة المسلمين بـ «كلمة التكوين» أو «القطب» أو «الكلمة» أو «الهو» أو «المطاع»، هو ما يدعوه الكتاب المقدس «الابن» أو «الكلمة».
  3. وقد اختلف الفلاسفة في تحديد شخصية هذا الكائن اختلافاً عظيماً، أما الكتاب المقدس فقد أعلن بوضوح أنه أقنوم الكلمة الذي تجسّد في «المسيح»، فقد قال الرسول يوحنا بالوحي: «وَٱلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ ٱلآبِ، مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً. وَمِنْ مِلْئِهِ نَحْنُ جَمِيعاً أَخَذْنَا، وَنِعْمَةً فَوْقَ نِعْمَةٍ» (يوحنا ١: ١٤، ١٦)، وقد أثبت الاختبار صدق هذه الحقيقة، كما سيتضح في آخر هذا الباب.
  4. لم تقتبس التوراة الحقائق الخاصة بـ «الكلمة» من الفلاسفة، لأنها كانت قد أشارت إليه وإلى صفاته وخصائصه وأعماله قبل ظهورهم في العالم، كما أن الإنجيل الذي أتى بعدهم، لا يقصد (كما لم تقصد التوراة من قبل) بـ «الكلمة»، ذات اللوجوس أو العقل الإلهي الذي كانوا ينادون به،
  5. بل استخدم فقط من لغتهم واصطلاحاتهم ما اتفق أن كان صحيحاً حسب الحق الإلهي، وذلك لإظهار الحقيقة التي كانوا يجهلونها أو يُلتبَس عليهم فهمها. وكأنه يقول لهم: إن اللوجوس الحقيقي الذي يعلن اللّه غير المُعلَن، والذي به خلق اللّه العالم، والذي عن طريقه نستطيع الاتصال به، ليس مجرد عقل، أو كائناً وسطاً بين اللّه والناس، أو تجلياً انتقل إليه اللّه في دور من الأدوار ليتصل بنا ويصلنا به، إنما هو أقنوم الكلمة الأزلي، أحد أقانيم اللاهوت، لأنه لا يستطيع القيام بهذه الأعمال سواه، ولأن اللّه لا شريك له أو نظير، ولأنه لا يتغير أو يتطوَّر على الإطلاق.

وهذه هي الطريقة التي اتبعها بولس الرسول مع أهل أثينا، فعندما رأى أحد مذابحهم مكتوباً عليه «لإله مجهول»، قال لهم: «فَٱلَّذِي تَتَّقُونَهُ وَأَنْتُمْ تَجْهَلُونَهُ، هٰذَا أَنَا أُنَادِي لَكُمْ بِهِ. ٱلإِلٰهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْعَالَمَ وَكُلَّ مَا فِيهِ» (أعمال ١٧: ٢٣، ٢٤). وطبعاً لجأ الرسول إلى هذه الطريقة ليجتذبهم من الأوثان إلى اللّه الحي، مستخدماً اعترافهم بالجهل وسيلة لإرشادهم إلى الحق.

أما الأسباب التي بنى عليها المسيحيون اعتقادهم بأن المسيح هو «ابن اللّه»، أو «الكلمة»، أو «اللّه متجلياً»، فهي:

  1. إن أنبياء العهد القديم ورسل العهد الجديد شهدوا بالوحي عن هذه الحقيقة بآيات واضحة كل الوضوح، في التوراة والإنجيل معاً. أي ليس عند مجيء المسيح إلى الأرض فقط، بل وقبل مجيئه إليها بآلاف
  2. السنين أيضاً، كما اتضح فيما سلف، وتدل كل القرائن على أن شهادتهم صادقة كل الصدق.
  3. إن المسيح وُلد من عذراء، وصعد بجسده حياً إلى السماء، الأمر الذي يدل على أن أصله سماوي لا أرضي (لوقا ١: ٣٤، لوقا ٢٤: ٥١).
  4. كان المسيح معصوماً من الخطيئة، كما كان كاملاً كل الكمال في سلوكه، والعصمة والكمال للّه وحده. فضلاً عن ذلك، فانه عاش كل حياته على الأرض، دون أن يسعى لاقتناء شيء من متاعها، أو الحصول على شيء من ملذاتها، الأمر الذي يدل على عدم خضوعه لناموس الطبيعة البشرية، الذي يخضع له الناس قاطبة.
  5. كان المسيح يقوم بالأعمال التي لا يستطيع القيام بها إلا اللّه وحده. فمثلاً كان يقول للأبرص: «أريد فٱطهر»، فيطهر (متى ٨: ٣)، ويقول للأعمى أبصر، فيبصر (لوقا ١٨: ٤٢)، ويضع يده على المريض، فيبرأ (متى ٨: ١٥)، ويقول للميت: «قم»، فيقوم (يوحنا ١١: ٤٣، ٤٤)، وينتهر الأمواج والرياح فتهدأ وتسكن (لوقا ٨: ٢٤)، ويمشي على الماء دون أن يغرق (متى ١٤: ٢٨)، ويدخل البيوت والأبوب مغلقة (يوحنا ٢٠: ١٩)، ويطعم آلاف الناس من أرغفة قليلة (متى ١٤: ٢٠)، وينبئ سامعيه بكل ما سيحدث في المستقبل القريب والبعيد على السواء (متى ٢٤: ١٥-٤١).
  6. أخيراً فان المسيح نفسه قد شهد بكل صراحة أنه هو «ابن اللّه» و «المعلِن للّه» (يوحنا ٩: ٣٥، ١٤: ٩، ١: ١٨)، وأنه الكائن (يوحنا ٨: ٥٨)، والبداية والنهاية (رؤيا ١: ٨) والموجود في كل مكان (متى ٢٨: ٢٠)، والطريق والحق والحياة (يوحنا ١٤: ٦)، والدّيان للأحياء والأموات (يوحنا ٥: ٢٥)، كما كان يغفر للناس ذنوبهم (مرقس ٢: ٥)، ويقبل منهم العبادة والسجود (متى ١٤: ٣٣)، والاعتراف بأنه الرب والإله (يوحنا ٢٠: ٢٩)، وبذلك قد وضع نفسه موضع اللّه ذاته.
  1. وكانت النتيجة المباشرة لتصرفه هذا، أن عرَّض نفسه ليس للاضطهاد فحسب، بل وللصلب أيضاً. وبما أنه لا يضع ذاته في هذا الموضع من دون اللّه، إلا كل دعيٍّ راغبٍ في العظمة الدنيوية، ولا يعرّض نفسه للاضطهاد والموت، بسبب شهادة يعلم قبل غيره أنه ليس لها نصيب من الصواب، إلا كل مستهتر فاقد للوعي والإدراك.
  1. وبما أن المسيح كان على العكس، متواضعاً كل التواضع، وحكيماً كل الحكمة، ومحتقِراً للعظمة الدنيوية كل الاحتقار، كما كان طول حياته على الأرض في منتهى اليقظة والانتباه، والتدقيق التام في كل أقواله وأعماله، لذلك لا شك في أنه كان صادقاً في شهادته عن نفسه كل الصدق.

نشر بتصريح من نداء الرجاء

https://call-of-hope.com

You may also like