كتاب الله ذاته ونوع وحدانيته
«الروح القدس»
عوض سمعان
الفصل الثالث: «الروح القدس»
– السبب في تسميته بـ «الروح»:
لم يُدْعَ هذا الأقنوم بهذا الاسم لأنه يشبه الروح أو الريح. كلاّ، إذ هو مثل الأقنومين الآخَرين، لا شبيه له ولا نظير على الإطلاق. وليس لأنه يتميز عنهما بروحانية الجوهر. كلاّ، لأن للأقانيم جوهراً واحداً كما مرَّ بنا، فقد أعلن الوحي بعبارة صريحة أن اللّه (بأقانيمه الثلاثة) هو روح (يوحنا ٤: ٢٤). وليس لأنه حياة الآب والابن.
كلاّ، لأن الأقانيم الثلاثة واحد في اللاهوت بكل خصائصه وصفاته. إنما دُعي بالاسم المذكور، لأنه يقوم بأعمال اللاهوت بوسيلة روحية، أو بوسيلة غير منظورة، كما يتضح من اسمه.
كما أنه لم يوصف بالقدُس لأنه يتميز بالقداسة دون الأقنومين الآخرين. كلا، لأن الأقانيم الثلاثة يتصفون معاً بهذه الصفة، وبكل صفات الكمال الأخرى بدرجة واحدة. ولكنه وُصف بالقُدُس لأنه هو الذي بعمله الروحي في نفوسنا يقدسها ويجعلها في حالة التوافق مع اللّه. ومما يؤكد لنا أنه واحد مع الأقنومين الآخرين في اللاهوت بكل صفاته وخصائصه، أنه لم يوصف بالقداسة فحسب، بل وُصف أيضاً بالأزلية، والوجود في كل مكان، والعلم، والقدرة، وغير ذلك من الصفات التي يتصف بها هذان الأقنومان، كما يتضح بالتفصيل في الفصل التالي.
يظن البعض أن تسمية هذا الأقنوم بـ «الروح»، تدل على أنه مجرّد قوة إلهية يمنحها اللّه لمن يريد، لكن الحقيقة غير ذلك. لأن الوحي يُسنِد إليه الأعمال التي لا يقوم بها إلا الكائن العاقل، مثل الكلام والفحص والإرشاد والتعليم. كما يسند إليه الصفات التي لا يتصف بها إلا الكائن العاقل، مثل المحبة والصلاح والمشيئة، ولذلك يعلن أن الذين لا يطيعونه يقفون إزاءه موقفهم إزاء الكائن العاقل، فإنهم في جهلهم يكذبون ويجدفون عليه. وإليك الأدلَّة:
قال مرة لبعض الأنبياء والمعلمين: «اَفْرِزُوا لِي بَرْنَابَا وَشَاوُلَ لِلْعَمَلِ ٱلَّذِي دَعَوْتُهُمَا إِلَيْهِ» (أعمال ١٣: ٢). كما قال السيد المسيح عنه: «وَأَمَّا مَتَى جَاءَ ذَاكَ، رُوحُ ٱلْحَقِّ، فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ ٱلْحَقِّ… وَيُخْبِرُكُمْ بِأُمُورٍ آتِيَةٍ» (يوحنا ١٦: ١٣، ١٤)، وأيضاً: «ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ… يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ» (يوحنا ١٤: ٢٦)، وقيل بالوحي عن الروح القدس إنه «يَفْحَصُ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَعْمَاقَ ٱللّٰهِ» (١ كورنثوس ٢: ١٠).
ومكتوب عنه أنه روح المحبة (٢تي ١: ٧)، وأنه الروح الصالح (نحميا ٩: ٢٠)، وأنه يوزع المواهب كما يشاء (١كورنثوس ١٢: ١١).
كما أن حنانيا وسفيرة لمَّا لم يقولا الصدق، اعتُبِرا أنهما كذبا عليه (أعمال ٥: ٣)، واليهود كانوا يُجدّفون عليه (متى ١٢: ٣١)، إذ كانوا في جهلهم يقولون عنه إنه رئيس الشياطين.
لم يرد ذكر «الروح القدس» أو «روح اللّه» في الإنجيل فحسب، بل وفي التوراة أيضاً، ومن أول صحيفة فيها فقد قال الوحي عن تكوين الخليقة «رُوحُ ٱللّٰهِ يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ ٱلْمِيَاهِ» (تكوين ١: ٢). كما قال عندما استفحل شر الإنسان في العهد القديم «لا يَدِينُ رُوحِي فِي ٱلإِنْسَانِ إِلَى ٱلأَبَدِ» (تكوين ٦: ٣)، كما قال على لسان حجي النبي «رُوحِي قَائِمٌ فِي وَسَطِكُمْ. لا تَخَافُوا» (حجي ٢: ٥). وقال موسى النبي: «جَعَلَ ٱلرَّبُّ رُوحَهُ عَلَيْهِمْ» (عدد ١١: ٢٩). وخاطب داود النبي المولى قائلاً: «رُوحَكَ ٱلْقُدُّوسَ لا تَنْزِعْهُ مِنِّي» (مزمور ٥١: ١١)، وخاطبه مرة أخرى قائلاً: «تُرْسِلُ رُوحَكَ فَتُخْلَقُ. وَتُجَدِّدُ وَجْهَ ٱلأَرْضِ» (مزمور ١٠٤: ٣٠).
وإذا رجعنا إلى الفلسفة، وجدنا أن فلاسفة اليونان قد افترضوا أن هناك نفساً للعالم، تحرّكه وتسيّره، أطلقوا عليها اسم «النفس الكلية»، وأن بعض فلاسفة المسلمين قد أطلقوا على «روح القدس» الوارد ذكره في القرآن اسم «الروح الأعظم»، وقالوا عنه إنه غير مخلوق ولا يمكن إدراكه أو حصره، وإنه وجه خاص من وجوه الحق، قام الوجود بذلك الوجه، وهذه الأعمال تشبه من بعض الوجوه أعمال «الروح القدس» الواردة في الكتاب المقدس.
أقنوم «الروح» يقوم بأعمال اللّه بطريقة روحية، وقد ذكرنا فيما سلف طرفاً من هذه الأعمال، ولذلك نكتفي هنا بالقول إنه هو الذي بعث الحياة الجسدية إلى الكائنات الحية (مزمور ١٠٤: ٣٠)، وهو الذي منح القدرة على التنبؤ وعمل المعجزات للرسل والأنبياء (أعمال ١٩: ٦)، وهو الذي يساعد المؤمنين على القيام بالصلاة، ويمنحهم المواهب الروحية اللازمة لهم (رومية ٨: ١٧، ١ كورنثوس ١٢: ٤-١٢)، وهو الذي يُبَكِت ضمائر الخطاة ويرشدهم في الباطن إلى طاعة اللّه، وهو الذي يعطي من يطيعون صوته حياة روحية، يستطيعون بها الارتقاء فوق أهواء الجسد وشهواته، والسلوك في حالة التوافق مع اللّه في صفاته وأفكاره (يوحنا ١٦: ٨، غلاطية ٥: ١٦)، وغير ذلك من الأعمال الخاصة بعلاقة اللّه الروحية فينا.
قبل انتقال المسيح من العالم، أوصى تلاميذه ألا يبرحوا أورشليم بعد صعوده عنهم، حتى يحل الروح القدس عليهم (لوقا ٢٤: ٤٩). وطاعة لهذه الوصية، انتظروا في حالة الاتصال الروحي باللّه والتضرّع المتواصل إليه، فحلَّ عليهم الروح القدس بهيئة واضحة في اليوم العاشر من صعود المسيح عنهم، ومنحهم المواهب الروحية التي هيأتهم للقيام برسالتهم في العالم، كوعد المسيح السابق لهم.
والمقصود بمجيء الروح القدس هو ظهوره، وليس التحرك من مكان إلى مكان.
وهنا يسأل سائل: كيف يكون الروح القدس قد ظهر بعد صعود المسيح بعشرة أيام، وقد كان يعمل في نفوس الأنبياء قبل مجيء المسيح إلى العالم بمئات السنين؟
وللإجابة على ذلك نقول: هناك فرق بين عمل الروح القدس وظهوره، فهو بوصفه أحد أقانيم اللاهوت كان يعمل أزلاً في الخلق وبعد الخلق، مثله في ذلك مثل الأقنومين الآخرين. ولكن ظهوره، مثل ظهور الابن، هو تجليه بهيئة واضحة، ليفتح الباب أمام جميع الناس حتى يستفيدوا من عمله الروحي فيهم، كما أستفادوا من ظهور الابن من قبل، بعمله الفدائي لأجلهم.
٦ – حلوله على المؤمنين:
بما أن حاجتنا إلى الروح القدس ليست أقلّ من حاجة الرسل إليه، كان من البديهي ألاّ يكون حلوله قاصراً عليهم. فإذا رجعنا إلى الكتاب المقدس، وجدنا أنه حلّ أيضاً على جميع المؤمنين الذين عاشوا في العصر الرسولي، ويحلّ وسيحلّ كذلك في جميع المؤمنين الحقيقيين في كل العصور والأجيال (أعمال ١٠: ٤٤، ١١: ١٥، أفسس ١: ١٣)، ليقدِّرهم بواسطة الحياة الروحية التي يبعثها فيهم، على التوافق مع اللّه والسلوك معه بالقداسة التي يريدها.
وبالطبع لا يُقصد بحلول الروح القدس في المؤمنين تحيُّزه فيهم، أو اختلاطه بطبيعتهم، لأنه غير متحيّز بحيز، ومنزَّه عن التأثُّر بأي مؤثر، بل يُقصد به ملازمته لنفوسهم في كل حين، ليحفظهم في حالة الاتصال باللّه والطاعة المستمرة له. وهذا العمل لا يتعارض مع خصائصه، بل يتوافق معها، كما يتوافق مع خصائص الأقنومين الآخرين. ولزيادة الإيضاح إقرأ (يوحنا ١٤: ١٧، ١كورنثوس ٦: ١٩، ٢ تيموثاوس ١: ١٤، مع يوحنا ١٧: ٢٣، ٢٦، أفسس ٣: ١٧).
مما تقدم يتضح لنا أن كل أقنوم سُمّي باسم خاص، ليس لأن أحدهم أقدم من الآخر زماناً، أو أفضل منه مقاماً، أو لأنه يختلف عنه جوهراً، بل لأن كلاّ منهم يقوم بعمل يتناسب مع أقنوميته، ولأن بين أحدهم والآخر نِسباً روحية خاصة، بها للاَّهوت علاقات متكاملة بينه وبين ذاته، منذ الأزل الذي لا بدء له، الأمر الذي بسببه هو في غنى عن كل شيء في الوجود.
وسيتضح لنا في الباب التالي أنه وإن كان كل أقنوم يقوم بعمل خاص، إلا أنهم جميعاً واحد في كل الصفات والتصرفات، الأمر الذي يدل على أن وحدانية اللّه في ثالوثه، هي وحدانية حقيقية، كما ذكرنا مراراً وتكراراً.
نشر بتصريح من نداء الرجاء
https://call-of-hope.com