قال المعترض: «يقول تكوين 6:6، 7 «فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض، وتأسَّف في قلبه. فقال الرب: أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقتُه، الإنسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء، لأني حزنت أني عملتهم». ويقول في مزمور 106: 44، 45 «فنظر إلى ضيقهم إذ سمع صراخهم، وذكر لهم عهده، وندم حسب كثرة رحمته». ويقول في 1صموئيل 15: 11 «ندمتُ على أني جعلت شاول ملكاً لأنه رجع من ورائي ولم يُقم كلامي». فهل يندم الله؟! علماً بأن هذا يناقض ما جاء في سفر العدد 23: 19 «ليس الله ابن إنسانٍ فيندم».
وللرد نقول: (1) لا شك أن الله منزّه عن الندم والحزن والأسف وغيرها. ورد في عدد 23: 19 «ليس الله إنساناً فيكذب، ولا ابن إنسان فيندم. هل يقول ولا يفعل، أو يتكلم ولا يفي؟» وفي 1صموئيل 15: 29 «نصيح إسرائيل لا يكذب ولا يندم، لأنه ليس إنساناً ليندم». وفي يعقوب 1: 17 «كل عطية صالحة وكل موهبة تامة هي من فوق نازلة من عند أبي الأنوار، الذي ليس عنده تغيير ولا ظل دوران». وفي إشعياء 46: 9، 10 «لأني أنا الله وليس آخر، الإله وليس مثلي. مخبرٌ منذ البدء بالأخير، ومنذ القديم بما لم يُفعَل. قائلاً: رأيي يقوم وأفعل كل مسرتي». وفي ملاخي 3: 6 «لأني أنا الرب، لا أتغيّر».
(2) ندم الله لا يعني تغييره، لأن الله لا يتغيَّر، فهو يكره الخطية ويعاقبها. كل ما في الأمر أن الله يوبِّخ الخاطئ وينذره بالهلاك إن لم يتُب. فإذا غيَّر إنسانٌ موقفه من الخطية وتاب، فإن الله يغيِّر إعلان العقاب، ويمنح العفو والغفران. ويبارك المؤمن المطيع، ولكن لو غيَّر مؤمنٌ موقفه من الله وعصى، فهل يستمر الله يباركه؟ إن الله لا يتغيّر، لكن معاملته للإنسان تتغيَّر بتغيير موقف الإنسان من الوصايا الإلهية. لقد سُرَّ الله بالإنسان لما خلقه، ثم حزن وتأسف وندم لما سلك الإنسان سبيل الشر. ويقولون «يا حسرة على العباد». والحسرة هي الندم. فالله في محبته يطيل أناته على العباد والكافرين ليتوبوا، ويرزق الصالحين والطالحين لينتبهوا إليه. فإذا لم يندموا ويتحسروا على خطاياهم يتحسّر هو ويندم على سوء أفعالهم. راجع تعليقنا على تكوين 17: 8 (بند 1).
(3) القول «ندم الرب» أو «حزن» معناه الشفقة والرقة والرحمة عند الرب. فلو أن أباً محباً أدّب ابنه لأنه خالفه، ثم رأى ألم ابنه بسبب التأديب، فإنه يتوجَّع لوجعه ويتألم لألمه ويتأسف ويحزن ويندم، مع أن الأب عمل الواجب في تقويم ابنه وتأديبه وخيره. إنما أسفه وندمه وحزنه كله ناشئ من الشفقة والرحمة. ولا يجوز أن نقول في مثل هذا المقام إن أباه رحمه أو أشفق عليه، بل نقول إن أباه ندم، بمعنى الرحمة والشفقة. فعلى هذا القياس يُقال إن الله ندم، بمعنى أنه أعلن شفقته ورحمته وجوده وكرمه، وكأنك تقول: «رحمهم بعد عقابه لهم». أو تقول: «ندم بعد العقاب والعذاب» دلالة على رحمته. والدليل على ذلك أن النبي داود قال: «وندم حسب كثرة رحمته».
(4) استعمال مثل هذه الألفاظ البشرية في جانب الله جائز، ليقرّب لعقولنا الأمور المعنوية، فإنه لا يخاطبنا بلغة الملائكة بل بلغتنا واصطلاحاتنا لندرك حقائق الأمور. وعلى هذا فهو يقول لنا إن الله ندم، بمعنى أنه غيَّر قضاءه بسبب تغيير الشروط التي سبق ووضعها. ولو أن هذا الندم يختلف عن ندم الإنسان، فالإنسان يندم بسبب عدم معرفته لما سيحدث. وهذا لا ينطبق على الله، الذي ليس عنده ماضٍ ولا مستقبل، بل الكل عنده حاضر.
وعندما نقول إن الله يحب ويكره ويتحسّر ويندم، لا نقصد أن له حواس مثل حواسنا، إنما نقصد أنها مواقف لله إزاء ما يفعله البشر.
من كتاب شبهات وهيمة حول الكتاب المقدس
للقس الدكتور منيس عبد النور