الرئيسية كتبروحية_ بنائية كلمات المسيح على الصليب – الكلمة الخامسة «أَنَا عَطْشَانُ» يسّى منصور

كلمات المسيح على الصليب – الكلمة الخامسة «أَنَا عَطْشَانُ» يسّى منصور

بواسطة Mousa
132 الآراء

من كتاب كلمات المسيح السبع على الصليب

يسّى منصور

الكلمة الخامسة

«أَنَا عَطْشَانُ»(يوحنا ١٩: ٢٨)

هذه أقصر كلمات المسيح التي نطق بها وهو على الصليب، فجاءت حسب الترجمة العربية في كلمتين: «أنا عطشان» ولكنها في الأصل اليوناني كلمة واحدة، قصيرة في لفظها، لكنها عميقة في معناها. نطق بها المسيح وهو يتجرع الآلام، التي أصبحت قصة الفداء التي يستعذبها البشر المفديون! لقد استساغ المسيح المرّ لنشرب نحن الحلو! وأعلن احتياجه لنعلن نحن حاجتنا إليه! وتوسّل للبشر الضعفاء طالباً شربة ماء، ليكون مطمح الذين يرجونه من البشر، ومعقد أمل اللاجئين منهم إليه، فقد أتعبه العطش ليروي كل ظمآن يقصد مراحمه من نهر الحياة الصافي.

كان العطش قد أخذ من المسيح كل مأخذ نتيجة آلام عشرين ساعة متواصلة من جثسيماني، إلى المحاكم، إلى الجلجثة حيث أصابته حمى محرقة بسبب جراحه البليغة الخطيرة، فجفّ ريقه ويبس لسانه، وتحقّقت فيه نبوّة المرنم: «يَبِسَتْ مِثْلَ شَقْفَةٍ قُوَّتِي، وَلَصِقَ لِسَانِي بِحَنَكِي» (مزمور ٢٢: ١٥).

ومن العجيب أنه وسط كل هذه الآلام، وبعدما عانى في ساعات الظلمة هول الدينونة الرهيب، نراه متمالكاً لنفسه، صادقاً في محبته للكلمة المكتوبة. وإذ رأى أن كل شيء قد تم، وبقي إتمام النبوة القائلة: «ٱنْتَظَرْتُ رِقَّةً فَلَمْ تَكُنْ وَمُعَزِّينَ فَلَمْ أَجِدْ… وَفِي عَطَشِي يَسْقُونَنِي خَلاًّ» (مزمور ٦٩: ٢٠ و٢١). فلكي يتم الكتاب قال: «أنا عطشان».

قد بخل عليه اليهود بنقطة ماء وهو مشرفٌ على الموت، بسبب ما كان في قلبهم عليه من حقد. واستهزأ به جنود الرومان لبلوغه هذا الدرك من العجز والبؤس، فأخذ أحدهم اسفنجة وملأها خلاً ووضعها على قصبة وسقاه. فلما ذاق ذلك الخل الذي لا يسيغه الفم قال: «قد أكمل». وهكذا مات بين أعدائه في شدة العطش.

وإذا أمعنا النظر في قوله له المجد: «أنا عطشان» تتجلى لنا شخصيته المباركة في أربعة أمور: طبيعته، وعمله، ومثاله، ومطلبه.

١ – طبيعته

يا للعجب! إن الذي يقول: «أنا عطشان» هو نفسه «الذي يعْطِي ٱلْعَطْشَانَ مِنْ يَنْبُوعِ مَاءِ ٱلْحَيَاةِ مَجَّاناً» (رؤيا ٢١: ٦)، والذي يفتقر إلى نقطة ماء هو الذي «كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ» (يوحنا ١: ٣). ولا غرابة، فالمسافة اللانهائية بين عرشه الذي يجري منه نهر ماء الحياة صافياً كبلّور، وبين صليبه المنشئ لأقسى أنواع العطش هي حدود محبته الفائقة التي جعلته يخلي نفسه، ويظهر لصالبيه كإنسان ضعيف محتاج. ولأنه وصل في ناسوته إلى هذا الدرك الأسفل من الهوان، استغاث وليس مَن يغيث.

عطش شمشون فسقاه الرب من الجوف الذي في لَحْيٍ (قضاة ١٥: ١٩)، وعطش بنو إسرائيل في البرية فسقاهم الرب من الصخرة (العدد ٢٠). وعطش المسيح فلم يعمل له الآب معجزة، ولم يعطف عليه من الناس أحد. عطش داود فشقّ أصحابه معسكر الفلسطينيين وجاءوه بماءٍ من بئر بيت لحم (٢ صموئيل ٢٣: ١٦). وأما المسيح فلم يجد أحداً من تلاميذه يواسيه في ساعة شدته، مع أن شريعة اليهود كانت تقول «إِنْ جَاعَ عَدُوُّكَ فَأَطْعِمْهُ خُبْزاً، وَإِنْ عَطِشَ فَٱسْقِهِ» (أمثال ٢٥: ٢١) ولكن اليهود عاملوا المسيح أكثر من عدو، فلم يجد عيناً تشفق أو قلباً يرق.

هذا كله أصاب المسيح برهاناً على اشتراكه التام في بشريتنا، فالعطش ليس من خواص الملائكة، ولكنه شرٌّ يصيب البشر أيام الخراب وانقطاع المطر، وقلّما يعاني منه أهل الطبقات الرفيعة. ولم يكن عطش المسيح بالبسيط الهيِّن، لأنه كان عطش الاحتضار والموت. ولم يكن عطش الموت العادي، بل عطش الموت النيابي عن كافة البشر. فالمسيح إذاً قد وصل إلى أكثر من الحد الأقصى لآلام الإنسان عند موته، وبرهن بهذا أنه بالحقيقة «عمانوئيل» الله معنا أينما كنا وفي أية منزلةٍ نزلنا! فإذا سرنا في وادي ظل الموت، أو إذا لحقتنا حرارة الحمى، أو أصابنا خطبٌ داهم، فلنذكر أن طريقنا يجري بجوار طريقه، وأن السهم الذي يخترق أحشاءنا قد تلطخ أولاً بدمه، وأن الكأس التي نشربها مهما تكن مُرّة فقد تجرّعتها شفتاه الطاهرتان قبلنا! فهو يعرف عملياً ويلاتنا وأحزاننا، وقد جازها قبلنا، وصار وليّ شأننا ومقدام نصرتنا.

أليس باشتراك المسيح معنا في أحزاننا حوّل تلك الأحزان إلى مباهج؟ فكلما تصورنا المسيح معلَّقاً على الصليب بلا مال ولا أصحاب، جوعاناً، عطشاناً، لا يسعنا إلا الصبر والشكر تحت نير الفقر والاحتياج، والتجلّد والثبات أمام نوازل الدهر. فكأس المسيح كانت أمرّ من كأسنا بمراحل، وهل ينتظر العبد كرامة أكثر من سيده!!

٢ – عمله

يا للمحبة الفائقة التي يقابلها الإنسان بالعداوة، فما أحط طبيعة الإنسان وما أرذلها. فبينما يدّعي أنه مخلوق لطيف يتقدم من حسن إلى أحسن، إذا بقلبه نجس وخدّاع.

جاء المسيح يعمل صلاحاً ويخدم الإنسان، فلم يلقَ من الإنسان إلا كل إعراض وجفاء. فمنذ ميلاد المسيح لم يجد مكاناً ينام فيه، وعند موته لم يجد كأس ماءٍ يشربها. وكانت هذه معاملة الإنسان لفاديه المحسِن. والإنسان في أعلى درجات تديُّنه ممثَّلاً في كهنة بني إسرائيل، وفي أوج نظامه السياسي ممثَّلاً في حكومة الرومان، يرتكب ضد إلهه كل هذا الشر. ولما قدّم أحدهم للسيد خلاً ومُرّاً برهن على أن «مَرَاحِمُ ٱلأَشْرَارِ فَقَاسِيَةٌ» (أمثال ١٢: ١٠) وأن أعدلهم مثل العوسج.

ولكن لماذا قبل المسيح هذه الآلام وتلك المعاملة؟ لا شك أن عطشه الشديد، وشربه المر، لم يكن إلا ليحل محل الخاطئ، ويقوم بمسئوليته في احتمال قصاصه العادل. وبما أن الكتاب المقدس يقرر أن دينونة الله تُهلك «ٱلنَّفْسَ وَٱلْجَسَدَ كِلَيْهِمَا فِي جَهَنَّمَ» (متى ١٠: ٢٨) احتمل المسيح كنائب الخطاة آلام النفس عندما صرخ: «إلهي إلهي، لماذا تركتني؟» واحتمل آلام الجسم عندما نادى: «أنا عطشان». وبما أن الخطية ابتدأت بشهوة الطعام على شفتي آدم، فلزم أن تنتهي بنكران تلك الشهوة والحرمان منها في «آدم الثاني» الذي هو المسيح. فآدم الأول ابتدأ بالنَّهم والتطاول على ما ليس من حقه، وأما آدم الثاني فعالج هذا الداء باحتمال العطش والتخلّي عما يستحقّه. وبما أن الخطية أنشأت عطشاً في نفوس البشر للسعادة والسلام، ولم يستطع العالم الحاضر بمسرّاته أن يقدمها لهم، وبما أن لهب الجحيم في العالم الآخِر لا تزال مندلعة حيث يطلب الخاطئ «نقطة ماء يبرّد بها لسانه» فلا يجد (لوقا ١٦: ٢٤) فالمسيح وهو يحارب لفدائنا احتمل بعطشه كل هذه النتائج. لقد عطش مرة لكيلا نعطش نحن إلى الأبد، وامتصّ اسفنجة الخل لنرتشف كأس السعادة والسرور. واشتد عطشه ليجعل كأسنا رياً. «مَنْ يَعْطَشْ فَلْيَأْتِ. وَمَنْ يُرِدْ فَلْيَأْخُذْ مَاءَ حَيَاةٍ مَجَّاناً» (رؤيا ٢٢: ١٧). «أَيُّهَا ٱلْعِطَاشُ جَمِيعاً هَلُمُّوا إِلَى ٱلْمِيَاهِ… تَعَالُوا ٱشْتَرُوا… بِلا فِضَّةٍ وَبِلا ثَمَنٍ خَمْراً وَلَبَناً… وَكُلُوا ٱلطَّيِّبَ، وَلْتَتَلَذَّذْ بِٱلدَّسَمِ أَنْفُسُكُمْ» (إشعياء ٥٥: ١ و٢).

٣ – مثاله

لم يتألم المسيح ليكفّر عن خطايانا فقط، ولكنه تألم ليكون أُسوة تُقتفى ومثالاً يُحتذى، فقدم لنا مثالاً في:

إكرام الشريعة:

كثيرون للأسف يعيشون في الارتداد عن الله، يتعبّدون للمادة، ويحوّلون النظر عن كلمة الله ويتجهون إلى العقل البشري الضعيف الذي يعجز عن أن يقدم حلاً لألغاز الكون. وكثيرون حولنا «لاأدريون» ومن هذا الاسم لا يخجلون.

ولكن السيد المسيح بتعليمه ومثاله يوقفنا وسط هذه العواصف على صخرة الكتاب فلا نتزعزع. فقد قال إن زوال السماء والأرض أيسر من أن يزول حرفٌ واحد أو نقطة واحدة من كلام الله (متى ٥: ١٨). وسيستمر الكتاب المقدس أبد الدهور أساس إيماننا. وفي أشد أوقات المسيح صعوبةً أعلن أنه لا بد أن يتم المكتوب. وإن كان المسيح قد عظّم الشريعة وأكرمها إلى هذا الحدّ، فيجب أن نتمسّك بالكتاب إلى النهاية، ونتّخذه قانون إيماننا وأعمالنا لأنه «ليس أمراً هيناً علينا بل هو حياتنا» فنقول مع المرنم: «كَمْ أَحْبَبْتُ شَرِيعَتَكَ! ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ هِيَ لَهَجِي» (مزمور ١١٩: ٩٧).

ثم قدم لنا مثالاً في:

ضبط النفس:

قبِل المسيح الحرمان من كل شيء، ومات عطشاناً إلى الماء. قهر جسده وأغفل راحته في سبيل أغراضه الروحية السامية، ولم يحسب لملذّات الحياة الفانية حساباً بالنسبة لسعادة الحياة العتيدة. وكان شعاره: الله قبل الإنسان، ومصلحة الغير قبل المصلحة الشخصية، والسعادة المعنوية قبل السعادة المادية، والتزوُّد للآخرة قبل التزوّد للحياة الحاضرة. فهل نضبط أنفسنا بهذه الحدود؟

قولوا للمولَعين بالخمر: إن المسيح في تضحيته قبِل حتى العطش إلى الماء! وقولوا للمدخّنين التبغ المتلِفين أموالهم وصحتهم: إن المسيح في تضحيته قبِل حتى العطش إلى الماء! وقولوا للطامعين الذين يصِلون بيتاً ببيت ويقرنون حقلاً بحقل (إشعياء ٥: ٨) : إن المسيح في تضحيته قبِل حتى العطش إلى الماء! لعلهم وهم يدّعون التديُّن يخجلون منه ويقتدون بشخصه «وَلٰكِنَّ ٱلَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا ٱلْجَسَدَ مَعَ ٱلأَهْوَاءِ وَٱلشَّهَوَات» (غلاطية ٥: ٢٤).

وقدم لنا مثالاً في:

العظمة الصحيحة:

كم مِن قائدٍ محارب سعى ليرفع شأن أمته باقتحام أوطان جيرانه، فضربهم برصاص المدافع وسموم القنابل، ونسي أن العظمة الحقيقية ليست في التدمير بل في البناء، وليست في الأخذ والاغتصاب بل في الإحسان والعطاء. بئست هذه العظمة الموهومة التي مقتها ذوو الألباب واستنكرتها كل الشعوب. ألم يحاول هتلر هذه المحاولة، فأين مقره الآن؟ وماذا أخذ القياصرة والغزاة والفاتحون وأين هم؟ فمتى يرجع الناس فيفهمون أن المجد والعظمة في الخدمة والتضحية ليس إلا، وأن من اتضع ارتفع.

فها المسيح بعريه وعطشه على الصليب كان يملك العظمة النفسية الحقيقية، وقد وصل إلى ذروة المجد والنفوذ الواسع على ملايين البشر في كل العصور والأمصار، وليس اليوم لمجده مثيل. وهو بهذا يعلّمنا أن قيمة الإنسان ليست فيما ملكت يمينه من الماديات، بل فيما يملك ضميره مِن الحق والبر. وحيث الضمير العامر بالحق والبر فهناك العظمة الصحيحة.

٤ – مطلبه

عبَّرت صرخة المسيح «أنا عطشان» عن رغبات قلبه، فلما قال للسامرية: «أَعْطِينِي لأَشْرَبَ» (يوحنا ٤: ١٠) كان يصبو وراء سؤاله أن يرتوي بخلاصها وخلاص شعبها، كما يرويها هي وشعبها من نهر نِعَمه (مزمور ٣٦: ٨). ولا زال المسيح اليوم ينادي: «أنا عطشان» «أَعْطِنِي قَلْبَكَ» (أمثال ٢٣: ٢٦) «لَذَّاتِي مَعَ بَنِي آدَمَ» (أمثال ٨: ٣١) «هَئَنَذَا وَاقِفٌ عَلَى ٱلْبَابِ وَأَقْرَعُ. إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ ٱلْبَابَ، أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي» (رؤيا ٣: ٢٠). إنه عطشان ليباركنا ولتكون له شركة معنا. فلا يجب أن نفعل ما فعل صالبوه بتقديم قلبٍ فاتر كالخل، بل لنسكب قلوباً مُخْلِصة يستريح لها قلبه. ولا زال المسيح ينادينا اليوم في الفقراء: «أنا عطشان» ليحرك قلوبنا نحوهم. وكم من فقراء في حالاتٍ تعيسة من جوع وعطش وعري ومرض، يكلّمنا المسيح فيهم، لأنهم إخوته الأصاغر. فإن كنا نؤمن بقول الكتاب: «مَنْ يَرْحَمُ ٱلْفَقِيرَ يُقْرِضُ ٱلرَّبَّ وَعَنْ مَعْرُوفِهِ يُجَازِيهِ» (أمثال ١٩: ١٧) فلماذا لا نملأ أيدي الفقراء، ونحن نشعر بعظم الواجب والشرف الناتج عن ذلك.

ولا زال المسيح اليوم ينادي في الخطاة: «أنا عطشان». عطشان لخلاصهم. فهل من يسمع ويشارك مباهج خلاصه معهم، فيفرح هو وتفرح السماء بخاطئ يتوب (لوقا ١٥: ٧)!

You may also like