من كتاب ثقتي في التوراة والإنجيل
الكتاب المقدس صادق في نبواته
نهدف في هذا الفصل إلى نبّوات جغرافية وتاريخية تحققت، مما يظهر صحّة نبّوة قائلها، بالرغم من أن تحقيقها كان مستحيلاً.
ومن النادر أن يجد الباحث فرصة لمثل هذه الدراسة الممتعة، ولكن عند الدرس والبحث نرى أن يد اللّه كانت على كتف أولئك الأنبياء عندما أعلنوا رسالة اللّه لسامعيهم. فالنبوات تُظهر أن اللّه كلي العلم وكلي القدرة، كما أنها برهان على وحي الكتب المقدسة.
ولقد قسمنا النبوات التي نقدمها إلى إثني عشر قسماً، في كل قسم نبوة خاصة ببلد أو أمة. غير أننا قدمنا لهذا الفصل بمقدمة عامة تساعد على متابعة البحث.
وهاك ملخصاً يساعد على متابعة ما جاء في هذا الفصل:
أولاً – مقدمة:
- تعريف بالنبوة.
- فحوص النبوة الصادقة.
- الإعتراض على النبوات.
ثانياً – نبوات تحققت عن:
- صور.
- صيدون.
- السامرة.
- غزة وأشقلون.
- موآب وعمون.
- البتراء وآدم.
- طيبة وممفيس.
- نينوى.
- بابل.
- كورزين وبيت صيدا وكفر ناحوم.
- إتساع أورشليم.
- فلسطين.
ثالثاً – الإحتمالات النبوية.
قدمت دائرة المعارف البريطانية التعريف الآتي: «السجلات المدونة للنبوة العبرية في سفر إشعياء توضح أن معنى النبوة الأساسي هو الكلمة أو الرسالة الشفوية التي يعلن فيها رسول خاص من الله إرادة الله. أما العنصر النبوي في التهديد أو المواعيد فهو مشروط باستجابة السامعين (١: ١٨-٢٠)، أو آية تحدث في المستقبل (٧: ١٤) لأن كل ما يحدث يتمم مقاصد إرادة الله». ثم تمضي دائرة المعارف ذاتها لتقول: «ويضع إشعياء أهمية خاصة على إبراز أوجه الفرق بين آلهة بابل وبين يهوه، في أن يهوه ينفّذ ما سبق أن أنبأ به (٤٨: ٣). فنبوات الأنبياء هي إعلان لمقاصد الله الحي، أكثر منها لمصير الإنسان» (٣٧).
أما التعريف الكتابي للنبي فهو أنه الشخص الذي يعلن إرادة الله، والمستقبل، للشعب، كما يرشده الوحي الإلهي. وعلاوة على أنه ينادي بالقضاء على الخطأ، والدفاع عن الحق والبر، والشهادة لسمو الاخلاق على الطقوس الشكلية، فإن النبّوة وثيقة الارتباط بمقاصد نعمة الله من نحو شعبه (ميخا ٥: ٤،٧: ٢٠، أشعياء ٦: ٣،٦٥: ٢٥).
ويهدف النبي إلى جوار إعلان الأتيات، أن يعلن صفات الله وما يعمله، حسب مسرة مشيئته. وباختصار هو يعرف الناس بالله وبإرادته وعمله.
ولكل نبي أسلوبه الخاص في الإعلان.. ومع أن الطابع الشخصي لكل واحدٍ منهم باقٍ إلا أن ما يعلنونه هو الحق الواحد، بفضل سيطرة الروح القدس الكاملة! ويظن البعض أن كل ما يفعله النبي هو الإخبار بالمستقبل، وهذا حق. ولكن كانت رسالة النبي تشمل الإصلاح الإجتماعي والسياسي، عن طريق الكرازة بالبر والنهضة الروحية، مع إعلان القصاص للمخطئ والجزاء للمحسن. وقد تكلم الأنبياء بطريقة روحية تعكس إرادة الله وتطالب بالطاعة له.
ولم تكن إعلانات الأنبياء للإثارة لكنهم أعلنوها بسبب الأحوال التي كانت تحيط بهم (قارن تثنية ١٨: ٢٢). وفي كل إصحاح ينبئ بالخراب نجد السبب الذي جاء بهذا الخراب.
وترجع النبوة الأولى في الكتاب إلى عصر آدم وحواء، عندما جاء الوعد بالفداء في التكوين (٣: ١٥ و ١٦). وكان أخنوخ وإبراهيم وموسى من الأنبياء الأولين (العدد ١٢: ٦ – ٨، التثنية ١٨: ١٨، يوحنا ٦: ١٤، ٧: ٤٠).
والنبوة مصدرها اللّه (١ صموئيل ٩: ٩، ٢ صموئيل ٢٤: ١١).
ويوضح الكتاب أن التنبُّؤ بالمستقبل علامة على قوة اللّه ومجده، وبرهان على سمو كلامه، كما أنه استجابة اللّه لصلوات البشر واحتياجاتهم، لأنه لما كان اللّه يعلن المستقبل (العمل الذي يعجز البشر عن عمله) ولما كان يرى المستقبل قبل وقوعه، فإن كل مؤمن يجب أن يطمئن لأنه لا يحدث شيء لم يعيّنه اللّه! (٣٨).
حدثت في التاريخ الكتابي منازعات حول «من هو النبي الصادق؟» (ملوك أول ١٣: ١٨ – ٢٢، أصحاح ٢٢، أرميا ٢٨). وكان حل النزاع عملياً أكثر منه أكاديمياً، فإن هناك صفات تظهر النبي الكاذب من الصادق.
ومن صفات النبي الكاذب «النشوة الصوفية النبوية» وهي حالة تظهر بدون إنذار سابق وفي حالات خاصة، خصوصاً بعد سماع نوع خاص من الموسيقى. وقد ظهر مع مثل هذه الحالات خروجٌ عن الشعور، مع ضياع الإحساس. ولكن ليست هذه الصفة فيصلاً في الحكم على النبي الكاذب، رغم أنها ظهرت على أنبياء البعل الكنعانيين.. فإن النبي أشعياء (في رؤياه في الهيكل) وحزقيال النبي إختبرا ما نسميه «نشوة صوفية».
وهناك صفة أخرى للنبي الكاذب، أنه عادة مأجور من الملك «ليتنبأ» بما يريده الملك. لكن هذه الصفة أيضاً ليست فيصلاً في الحكم على النبي الكاذب، فإن الأنبياء صموئيل وناثان وحتى عاموس، كانوا يعتبرون لحدٍّ ما أنبياء رسميين للدولة، ولكنهم كانوا أنبياء صادقين.
ولكن العهد القديم يقدم لنا ثلاث فقرات كتابية هي التثنية ١٣، ١٨، إرميا ٢٣، وحزقيال ١٢: ٢١ – ١٤: ١١، تصف النبي الكاذب.
أما التثنية ١٨ فيقول أن النبوة التي لا تتحقق، هي كاذبة لكن هذه صفة سلبية، فليست كل نبوة تتحقق هي من اللّه، فإن النبي الكاذب عندما يقول شيئاً يتحقق يكون هذا إمتحاناً للشعب. أما التثنية ١٣ فيقول إن النبي الذي ينادي بآلهة أخرى خلاف اللّه فهو ليس من اللّه (يهوه). وكل نبي يتنبأ بنبوة تتحقق، ولكن تعليمه يخالف تعاليم موسى يكون كاذباً!
أما ما جاء في أرميا ٢٣ فهو توسّع في الحديث الذي جاء في التثنية ١٣، عندما يقول أرميا أن النبي الكاذب هو رجل فاسق (آيات ١٠ – ١٤) يقود الآخرين للشر (آية ١٧). وهو ينادي بسلام مزيَّف غير إلهي. والنبي الحقيقي يجيء برسالة توبيخ تسبّب التوبة (آية ٢٩) ويدعو الناس للتوبة والطاعة (آية ٢٢).
ويخطئ بعض الناس في انتقاد الأنبياء لأن رسالتهم كلها إعلان للخراب، لكن إعلان الخراب لم يكن كل شيء قالوه! صحيح أنهم لم ينادوا أولاً بالسلام الحقيقي، لأن سلام اللّه يجيء نتيجة للقداسة والبر والتوبة. ويقول أرميا النبي إن النبي الكاذب يسرق إسم اللّه لكي يمجد نفسه (آيات ٣٠ – ٣٢) ولكن النبي الصادق هو الذي أرسله يهوه، وهو الذي يتكلم باسم يهوه وبسلطانه.
أما حزقيال فيقول (١٢: ٢١-١٤: ١١) إن الأنبياء الكذبة جاءوا من تلقاء ذواتهم وينادون بنبّوَات من عندهم (١٣: ٢،٣) ويعطون الناس تأكيدات كاذبة (١٣: ٤-٧). والسلام الذي يعلنونه سلام كاذب (١٣: ١٠-١٦) لا يبنون حياة الناس الروحية (١٣: ٢٢). أما النبي الصادق فيدعو الناس إلى فحص نفوسهم ليروا مطالب الله منهم (١٤: ٤-٨). وهو الذي يعلن بأسلوب جديد الحقائق الإلهية التي لا تتبدل ولا تتغير.
الإعتراف الأساسي هو القول بأن تسجيل النبوة وكتابتها حدث بعد وقوعها وليس قبلها. ولذلك فإننا نقدم هنا تواريخ نبّوة الأنبياء كما قدمها «مرل أنجر» في قاموسه، وقد استمدّ حكمه من واقع ما جاء في النبوات نفسها، خصوصاً عندما يسجل النبي نبّوته. يوئيل وعوبديا وحدهما لا يحدّدان تاريخاً لنبوتيهما.
حزقيال تنبأ من ٥٩٢-٥٧٠ ق.م
أشعياء ٧٨٣-٧٣٨ (القسم الأول)
إشعياء ٧٣٥-٧١٩ (القسم الثاني)
إشعياء ٧١٩-٧٠٤ (القسم الثالث)
أرميا ٦٢٦ إلى ما بعد ٥٨٦ ق.م
عاموس الربع الثاني من القرن الثامن ق.م
هوشع ٧٤٨-٦٩٠ ق.م
ميخا نحو ٧٣٨-٦٩٠ ق.م
عوبديا قبل ٣٠٠ ق.م
ناحوم بعد ٦٦١ إلى ما قبل ٦١٢ ق.م
صفنيا بين ٦٤٠-٦٢١ ق.م
اللاويين (موسى) ١٥٢٠-١٤٠٠ ق.م
يوئيل قبل ٣٠٠ ق.م
دانيال ٦٠٥-٥٣٨ ق.م
متى ٥٠ م
وقد تمّت ترجمة كل نبوات العهد القديم إلى اللغة اليونانية حوالي عام ٢٨٠ ق.م (الترجمة المعروفة بالسبعينية). وعلى هذا فإن كل النبوات، بما فيها يوئيل وعوبديا، قد كتبت قبل هذا التاريخ.
ونود أن نورد بعض الحقائق عن نبّوة حزقيال، حيث أننا سنقتبس منها كثيراً في هذا الفصل. وتعود كتابة السفر إلى سنة ٥٧٠ ق.م. ولنبدأ بإيراد ما قالته دائرة المعارف البريطانية عنه:
«توجد أفكار متنوعة عن وحدة سفر حزقيال وتاريخ كتابته. ولكن السفر يوضح أن خدمة النبي امتدت من ٥٩٢ إلى ٥٧٠ ق م، ولكن واحداً من العلماء (جيمس سميث) يقول إنه تنبأ في القرن السابع ق م في أيام الملك منسى. وآخر (ميسيل) يقول أنه تنبأ بعد زمن نحميا حوالي عام ٤٠٠ ق م لكن معظم العلماء يقبلون التاريخ الأول. وقد وجدت نسخ من السفر في مخطوطات البحر الميت بوادي قمران».
وتتضح الوحدة الأدبية للسفر من تكرار عبارة «فيعرفون أني أنا الرب» أكثر من خمسين مرة، وعبارة «حي أنا يقول السيد الرب» ١٣ مرة، وعبارة «سبوتي» ١٢ مرة، «يسلكون في شرائعي» ١١ مرة.. ألخ (٣٩).
ولقد حدث هجوم شديد على صحة نبوة حزقيال التاريخية بسبب قوله إن الله كلّمه في «السنة الخامسة من سبي يوياكين الملك». ولكن الحفريات الحديثة جاءت في صف هذا التأريخ. فقد وجدت ثلاث جرار مكتوب عليها «ألياقيم وكيل يوياكين».. مما يدل على أن ألياقيم كان وكيلاً لممتلكات يوياكين أثناء وجود يوياكين في السبي، ومن الواضح أن الشعب كان يعتبر أن يوياكين هو ملك يهوذا، وأن صدقيا كان يملك كقائمقام يوياكين إبن أخيه. ومن هذا ترى أن كلمات حزقيال تأريخ سفره صحيحة ومناسبة للفكر اليهودي في وقته، الذي اعتبر يوياكين ملكاً، رغم أنه كان منفاه (٤٠). ونخلص من هذا أن قوله «السنة الخامسة من سبي يوياكين الملك» برهان على صحة السفر التاريخية، وليست (كما قال النقاد) هجوماً ضدها.
ويرى دارسو الأدب القديم أن سفر حزقيال وحدة أدبية، تتضح من وحدة أسلوب كاتبه، ووحدة خطه الفكري، فإن الكاتب يكتب بضمير المتكلم، وهو يعطي زمن كثير من نبواته ومكان حدوثها، مما يبرهن أن السفر كله من نتاج قلم كاتب واحد. وهذا يجعلنا نقول أن حزقيال هو الكاتب (٤١).
وقد قال بيتر ستونر في كتابه «العلم يتكلم» إن النبوات التي جاءت في الكتاب عن البلاد المختلفة مثل صور وصيدون والسامرة وغزة وأشقلون وغيرها لا يمكن أن تكون قد كُتبت بعد حدوثها، فإن الفترة الزمنية التي مضت بين الكتابة والتحقيق كبيرة. لقد قيل إن ما جاء في النبوات هو تاريخ عن أشياء حدثت، وليس نبوة بأشياء ستحدث، ولكن هذه النبوات جاءت قبل ميلاد المسيح، لأنها في العهد القديم. وقد تحققت نبوة كاملة منها، وأجزاء فقط من اثنتين منها قبل ميلاد المسيح، ولكن الباقي كله تحقق بعد الميلاد. وحتى لو أسقطنا ما تحقق قبل الميلاد، فإن العدد الذي تحقق بعد الميلاد كثير جداً (٤٢).
وقد راجعت كتاب ستونر لجنة من كبار علماء «الجمعية العلمية الأمريكية» وكتب أحدهم مقدمته، فقال إن المعلومات الواردة به صحيحة علمياً، وإن الحسابات الواردة فيه قد أُجريت طبقاً للنظريات العلمية الصحيحة (٤٢).
ولو أننا طرحنا النبوات التي فيها شك من جهة تاريخها، وجعلنا الشك في جانب رفضها، لبقي الكثير المذهل بعد ذلك!
والحقيقة أن الذين يشكّون في صدق النبوات يفعلون ذلك لأنهم لا يؤمنون بوجود الله، ولذلك فالمعجزات عندهم مستحيلة، ومن ثم لا توجد نبوات عن المستقبل، ولذلك فإنهم عندما يقرأون أقوال النبي ويرون أنها قد تحققت في زمن بعد النبي بكثير، فإنهم يزعمون أن النبوة قيلت بعد وقوع الحادث، وليس لأنهم درسوا الحفريات والإكتشافات الأركيولوجية الحديثة التي تقدم أدلة دامغة على صدق هذه النبوات.
سنقدم هنا نبوات جاءت في الكتاب المقدس، مع تعليقات عن تاريخية كل نبوءة منها، حتى تتضح لنا دقة تلك النبوات. وعندما ندرسها نبوة بعد نبوة، ونراها كلها تتحقق بصورة مذهلة، سينزاح الشك الذي قد يكون خامرنا، وينقشع.
ويقول أحد علماء الحفريات: «هناك مشاكل في التوفيق بين الحفريات والتاريخ الكتابي، لكنها ليست خطيرة. وأعتقد أنها ستنجلي بعد الإكتشافات الجارية. ولكن الإتفاقات بين اكتشافات علم الآثار والكتاب المقدس كثيرة جداً، ولا يوجد اكتشاف منها يجعلنا نشك في صحة التاريخ الكتابي» (٤٣).
وقد أُطلقت أعيرة نارية كثيرة ضد الكتاب المقدس، وهنا نطلق اثنتي عشرة قذيفة في صف الكتاب، عبارة عن اثنتي عشرة نبوة كتابية تحققت. وهي قذائف عالية، طويلة المدى، يصعب إسكاتها!
من أغرب النبوات الكتابية التي تحققت تلك التي وردت عن مدينة صور. وتستعمل كل كتب الدفاع عن المسيحية هذه النبوة، ولها الحق في ذلك. وهاك كلمات النبي: حزقيال ٢٦ (٥٩٢-٥٧٠ ق.م).
٣ لذلك هكذا قال السيد الرب: «هَئَنَذَا عَلَيْكِ يَا صُورُ فَأُصْعِدُ عَلَيْكِ أُمَماً كَثِيرَةً كَمَا يُعَلِّي ٱلْبَحْرُ أَمْوَاجَهُ».
٤ «فَيَخْرِبُونَ أَسْوَارَ صُورَ وَيَهْدِمُونَ أَبْرَاجَهَا. وَأَسْحِي تُرَابَهَا عَنْهَا وَأُصَيِّرُهَا ضِحَّ ٱلصَّخْرِ».
٥ «فَتَصِيرُ مَبْسَطاً لِلشِّبَاكِ فِي وَسَطِ ٱلْبَحْرِ، لأَنِّي أَنَا تَكَلَّمْتُ يَقُولُ ٱلسَّيِّدُ ٱلرَّبُّ».
٧ لأنه هكذا قال السيد الرب: «هَئَنَذَا أَجْلِبُ عَلَى صُورَ نَبُوخَذْنَصَّرَ مَلِكَ بَابِلَ مِنَ ٱلشِّمَالِ مَلِكَ ٱلْمُلُوكِ بِخَيْلٍ وَمَرْكَبَاتٍ وَفُرْسَانٍ وَجَمَاعَةٍ وَشَعْبٍ كَثِيرٍ».
٨ «فَيَقْتُلُ بَنَاتِكِ فِي ٱلْحَقْلِ بِٱلسَّيْفِ، وَيَبْنِي عَلَيْكِ مَعَاقِلَ وَيَبْنِي عَلَيْكِ بُرْجاً وَيُقِيمُ عَلَيْكِ مِتْرَسَةً وَيَرْفَعُ عَلَيْكِ تُرْساً».
١٢ «وَيَنْهَبُونَ ثَرْوَتَكِ وَيَغْنَمُونَ تِجَارَتَكِ وَيَهُدُّونَ أَسْوَارَكِ وَيَهْدِمُونَ بُيُوتَكِ ٱلْبَهِيجَةَ وَيَضَعُونَ حِجَارَتَكِ وَخَشَبَكِ وَتُرَابَكِ فِي وَسَطِ ٱلْمِيَاهِ».
١٤ «وَأُصَيِّرُكِ كَضِحِّ ٱلصَّخْرِ فَتَكُونِينَ مَبْسَطاً لِلشِّبَاكِ. لاَ تُبْنَيْنَ بَعْدُ، لأَنِّي أَنَا ٱلرَّبُّ تَكَلَّمْتُ يَقُولُ ٱلسَّيِّدُ ٱلرَّبُّ».
٢١ «أُصَيِّرُكِ أَهْوَالاً وَلاَ تَكُونِينَ، وَتُطْلَبِينَ فَلاَ تُوجَدِينَ بَعْدُ إِلَى ٱلأَبَدِ يَقُولُ ٱلسَّيِّدُ ٱلرَّبُّ».
في هذه النبوة نرى الحقائق الآتية عن مدينة صور:
- يخرب الملك نبوخذ نصر، ملك بابل، مدينة صور (آيتا ٧، ٨)
- تقوم دول كثيرة على صور (آية ٣).
- تصير صور صخرة عارية (ضِحّ الصخر) (آية ٤).
- يبسط الصيادون شباكهم لتجفّ، على موقعها (آيتا ٥، ١٤).
- يُلقون أنقاضها في الماء (آية ١٢).
- لن تُبنى صور أبداً (آية ١٤).
- لا تُوجد صور بعد إلى الأبد (آية ٢١).
والنبوة كما نراها واضحة، وقد تبدو متناقضة، ولكن التاريخ لا تناقض فيه، فلندرس تاريخ صور لنرى كيف تحققت النبوة.
- توضح نبوة حزقيال (خصوصاً ٢٧: ٢٧) أهمية مدينة صور وتجارتها وثروتها. وقد حاصر نبوخذ نصر ملك بابل صور، بعد نبوة حزقيال بثلاث سنوات. وتقول دائرة المعارف البريطانية إنه بعد حصار دام ١٣ سنة (٥٨٥-٥٧٣ ق.م) استسلمت صور للملك نبوخذ نصر الثاني وقبلت شروطه. وفي سنة ٥٣٨ ق.م كانت صور وكل فينقية قد أصبحت تحت السيادة الفارسية (٣٧).
وعندما اقتحم نبوخذ نصر أبواب صور، وجد المدينة خالية تقريباً فقد هجرها سكانها بالسفن إلى جزيرة تبعد نصف ميل عن الشاطئ وحصنوا مدينة هناك. وأخربت صور سنة ٥٧٣. ولكن المدينة الجديدة في الجزيرة بقيت قوية وعمرت عدة قرون. (وهكذا تحققت نبوة حزقيال ٢٦: ٨).
- بعد ذلك جاء الإسكندر الأكبر. وتقول دائرة المعارف البريطانية إن الإسكندر الأكبر في حربه ضد فارس، بعد أن هزم داريوس الثالث في موقعة أسوس (٣٣٣) اتجه جنوباً نحو مصر، داعياً المدن الفينيقية لتفتح لها أبوابها حتى لا تستخدم سفن الجيش الفارسي موانيها. ولكن أهل صور رفضوا طلبه، فحاصر الإسكندر مدينتهم. ولما لم تكن لديه سفن فقد أخرب المدينة الأصلية وألقى بأنقاضها في الماء، جاعلاً منها طريقاً عرضه ٦٠ متراً، وصل به إلى المدينة الجديدة في الجزيرة، وبنى قلاعاً وآلات حرب (٣٧). (وهكذا تحققت نبوة حزقيال ٢٦: ١٢).
أخذ نبوخذ نصر المدينة الأصلية وترك المدينة الجديدة، ولكن الإسكندر أخذ الإثنتين، رغم صعوبة أخذ الثانية المحاطة بالمياه وبالأسوار الحصينة. ومع أن الأسطول الفارسي كان يحميها، إلا أن الإسكندر صنع طريقاً في البحر من أنقاض صور. ولم يكن هذا الهجوم سهلاً، فقد كان الصوريون يهاجمون العمال الذين يرمون الأنقاض في البحر. فبنى اليونانيون برجين عاليين لحماية العمال. وكان اليونانيون كلما تقدموا في العمل وجدوا البحر يزيد عمقاً. وأحرق الصوريون الأبراج التي بناها اليونانيون، وعطلوا تقدم الغزاة، وعزلوا جزءاً من الجيش عن البقية، وكانت الخسائر جسيمة جداً. ورأى الإسكندر شدة حاجته إلى السفن، فجعل أهل البلاد التي هزمها يساعدونه في صناعة سفن الحرب، فقدمت له صيدا وأرفاد وبيبلوس نحو ٨٠ سفينة، وعشراً من رودس، وثلاثاً من سولي ومالوس، وعشراً من ليكية، وواحدة كبيرة من مكدونية، و ١٢٠ من قبرص (وهكذا تحققت نبوة حزقيال ٢٦: ٣).
وعندما حصل الإسكندر على السفن، وتقدَّم بناء الطريق في البحر، عرف أن انتصاره على صور أكيد. وقد كان!
ولا تزال الطريق التي صنعها الإسكندر موجودة، تربط الجزيرة بالأرض. وبعد حصار دام سبعة شهور سقطت صور، وقتل ثمانية آلاف من سكانها وبيع ثلاثون ألفاً في سوق العبيد (٤٤). وكان الإسكندر قد تكلف الكثير في غزو صور، وملأه الحقد على أهلها، فتصرف بكل قسوة لينتقم منهم، فأخرب المدينة تماماً عام ٣٣٢ ق.م: «وقد قامت صور الجديدة من عثارها بعد ذلك، لكنها لم ترجع أبداً إلى مكانتها في العالم. والجزء الأكبر من موقع المدينة اليوم صخرة عارية يجفّف عليها الصّيادون شباكهم» (٤٤) – (وهكذا تحققت نبوة حزقيال ٢٦: ٥، ١٤).
ولم يتوقف تاريخ صور بعد الإسكندر، فقد بُنيت وهُدمت عدة مرات ولكنها أُخربت بعد ١٦ قرناً ولم تُبْنَ بعد ذلك أبداً!
- وبعد ذلك جاء أنتيجونس بعد أن انتصر على بابل، واستولى على المدن الفينيقية، ولكنه قُوبل بمقاومة شديدة من صور. وكانت قد مضت ثماني عشرة سنة على استيلاء الإسكندر عليها. وحاصر أنتيجونس صور ١٥ شهراً فسقطت وأخربها. ويرجع تاريخ أنتيجونس إلى سنة ٣١٤ ق.م.
- وجاءت كارثة أخرى على صور في عهد بطليموس فيلادلفوس (٢٨٥-٢٤٧ ق.م) الذي بنى ميناء برنيس على البحر الأحمر، وربط مجرى النيل بخليج السويس، فتحّول مجرى التجارة إليه، بعد أن كان يمرّ بخليج العقبة إلى ميناء إيلات، ومنها إلى البتراء، ومن ثم إلى مواني البحر الأبيض المتوسط لتحمله سفن صور. وكانت هذه ضربة قاسية على تجارة صور، إذ خسرت تجارتها لتربحها الإسكندرية.
- ولكن المدينة استردت بعض غناها. ويصف زائر للمدينة سنة ١٠٤٧ م حالتها فيقول: «لقد بنوا جزءاً صغيراً من المدينة لا يزيد عن ١٠٠ ياردة فقط على صخرة في البحر، أما معظم المدينة فيقع فوق المياه. أما الحوائط فمبنية من الحجارة المنحوتة، تعطي الفواصل بينها بالبيتومين ليعزل الماء. وترتفع البيوت إلى خمسة أو ستة طوابق. وهناك نافورات للمياه، والأسواق نظيفة، وعلامات الغنى في كل مكان. وهي مدينة مشهورة بثروتها بين كل الموانئ السورية. وقد أقاموا المشهد عند مدخل المدينة حيث الطنافس الثمينة والثريات الذهبية والفضية وهم يجلبون الماء اللازم لهم من الجبل» (٤٥).
- وقد استولى المسلمون على المدينة، وحاربهم الصليبيون وأخذوها، ولكن المسلمين استعادوها. ويقول أحد المؤرخين: «بعد أخذ بتولمايس وإخرابها، وأرسل السلطان أحد الأمراء مع فرقة من جيشه لأخذ صور، فملأ الرعب قلوب أهلها ففتحوا الأبواب بدون أي مقاومة، فذُبح بعض سكانها وبيع الآخرون عبيداً. وهُدمت المعابد والأسواق، وأبيد كل شيء بالسيف أو بالحريق» (٤٦).
وقد عاد المسلمون واستولوا على المدينة عام ١٢٩١ وأخربوها تماماً. وقد زار إبن بطوطة خرائب المدينة سنة ١٣٥٥، وكتب ما ترجمته (عن الإنكليزية): «كانت المدينة قبلاً مضرب الأمثال في قوتها، تغسلها مياه البحر من ثلاثة جوانب. ولم يبق اليوم سوى آثار من أسوارها ومينائها، مع سلسلة كانت في مدخل الميناء» (٤٧).
(وهكذا تحققت نبوة حزقيال ٢٦: ١٤).
وكان بلني الكبير قد كتب يقول: «صور معروفة بأنها أم المدن، لأنها ولدت من حولها مدن لبتس ويوتيكا. وهي تنافس روما وقرطجنة وكادز». ولكن شهرتها اليوم تقوم على أصداف بحرية وصبغة أرجوانية (٤٧).
(وهكذا تحققت نبوة حزقيال ٢٦: ٢١).
- ونعود للوصف الحالي لصور كما تقدمه نينا جدجيان، في كتابها الذي أصدرته دار المشرق ببيروت «صور عبر العصور»، تقول: «لا زال القسم الصيدوني من صور مستعملاً اليوم، وهناك سفن صغيرة للصيد، ولكن فحص الأساس يظهر أعمدة جرانيتية من العصر الروماني استعملها الصليبيون لتدعيم الأسوار. وصار الميناء اليوم ملجأ لسفن الصيد الصغيرة، ومكاناً لتجفيف الشباك.. وهناك مدينة اليوم اسمها صور، لكنها ليست صور القديمة، لأنها مبنية على موقع آخر غير صور القديمة، إن صور سيدة البحار ومركز العالم التجاري لعدة قرون قد انتهت إلى غير رجعة! لقد بسط الصيادون شباكهم على أحجارها التاريخية العظيمة.. أن أحجار صور توجد اليوم في بيروت وعقرون، ولكن الحفريات أظهرت عظمة هذا الميناء الفينيقي، فإن صور القديمة العظيمة قد سقطت تحت الركام، ولا يوجد منها فوق سطح الأرض سوى بعض الأعمدة المتناثرة وأنقاض برج الكاتدرائية المسيحية. وعندما يتطلع الواحد منا تحت الماء يرى أعمدة الجرانيت الضخمة والأحجار الملقاة في قاع البحر. وحطام صور فوق الماء قليل» (٤٧).
(وهكذا تحققت نبوة حزقيال ٢٦: ١٢).
- أخرب نبوخذ نصر مدينة صور الأصلية القديمة.
- قامت أمم كثيرة ضد صور، إذ هاجمتها جيوش بعد عصور متوالية، وهو ما ترمي إليه النبوة (٢٦: ٣-٦).
- جعل الإسكندر الأكبر المدينة القديمة صخرة عارية رمى حجارتها وخشبها وحتى ترابها في الماء.. لقد صارت صخرة جرداء!
- تكررت الإشارة إلى أن الصيادين بسطوا شباكهم على حجارتها لتجف!
- رمى الإسكندر الأكبر أنقاض المدينة في البحر ليعمل طريقاً في الماء!
وهكذا تحققت حرفياً نبوة حزقيال ٢٦: ١٢ «يهدمون أسوارك، ويهدمون بيوتك البهيجة، ويضعون حجارتك وخشبك وترابك في وسط المياه».
- ولم تقم للمدينة قائمة بعد ذلك! لقد هدمت مدن كثيرة وأعيد بناؤها، ولكن يهودياً مسبياً في بابل قال عن صور بأمر من الله: «لا تُبْنَيْنَ بعد» فبقيت صور صخرة جرداء منذ خمسة وعشرين قرناً. وعندما يريد أحد اليوم أن يعرف موقع صور، فإنهم يشيرون إلى مكان عار!
ولا زالت الينابيع التي كانت تروي صور القديمة موجودة، وكلها تصبّ في البحر! وتعطي نحو عشرة ملايين جالون من الماء يومياً، تكفي لإِعاشة مدينة كبيرة، ومع ذلك فإن صور لم تُبْنَ! ولكن بعض الصيادين البسطاء يسكنونها اليوم ويبسطون شباكهم في موقعها تحقيقاً للنبوة، ولكنها لم ترتفع أبداً لمكانتها الأولى.
ويقول ستونر: «لقد نظر حزقيال إلى صور في أيامه، عظيمة بالغة قمة العظمة، وتنبأ عليها سبع نبوات. وحسب الحكمة البشرية تكون نسبة صحة نبواته، لو أنها كانت بالصدفة، فرصة واحدة من ٧٥ مليون فرصة!! ولكن نبواته كلها تحققت بكل تفاصيلها» (٤٢).
قدم النبي حزقيال النبوة التالية على صيدون، زميلة صور، سنة ٥٩٢-٥٧٠ ق.م: حزقيال ٢٨:
٢٢ هكذا قال السيد الرب: «هَأَنَذَا عَلَيْكِ يَا صَيْدُونُ وَسَأَتَمَجَّدُ فِي وَسَطِكِ، فَيَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا ٱلرَّبُّ حِينَ أُجْرِي فِيهَا أَحْكَاماً وَأَتَقَدَّسُ فِيهَا».
٢٣ «وَأُرْسِلُ عَلَيْهَا وَبَأً وَدَماً إِلَى أَزِقَّتِهَا وَيُسْقَطُ ٱلْجَرْحَى فِي وَسَطِهَا بِٱلسَّيْفِ ٱلَّذِي عَلَيْهَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَيَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا ٱلرَّبُّ».
في هذه النبوة نرى الحقائق الآتية عن مدينة صيدون:
- لا ذكر لخرابها.
- دماء في شوارعها (آية ٢٣).
- السيف عليها من كل جانب (آية ٢٣).
ويقول جورج ديفس في كتابه «نبوات تحققت تبرهن صحة الكتاب المقدس»: «تختلف النبوات التي جاءت عن صور عن تلك التي جاءت عن صيدون، فصور تُخرب لتكون صخرة جرداء لا تُبنى، أما صيدون فجاء عنها أن الدم يسيل في شوارعها، وأن جرحاها يسقطون وسطها، ويلاحقها السيف من كل جانب.. ولكنها لا تُخرب» (٤٨).
لقد كان مصير صور وصيدون السياسي واحداً، فمن القرن الحادي عشر إلى القرن الرابع ق.م قبضت صور – بدون منازع من صيدون – على زمام السلطة على كل فينيقية، ونشر أسطولها التجاري شهرتها في كل الآفاق (٤٤) فكانت سيدة وملكة البحر المتوسط. وفي القرن الرابع (سنة ٣٥١ ق.م) ثار الصيدونيون على ملك فارس الذي كانوا خاضعين له، وحصّنوا مدينتهم ضده بنجاح. ولكن ملكهم سلم المدينة، لينقذ حياته. ولما كان الصيدونيون يعرفون انتقام الملك الفارسي، فقد اختبأ أربعون ألفاً منهم في بيوتهم ثم أشعلوا فيها النار، لأن هذا الإنتحار عندهم كان أسهل من تعذيب الفارسيين. وهكذا كانت الدماء في شوارعها. (وتحققت نبوة حزقيال ٢٨: ٢٣). وفي مرات عديدة سالت الدماء في شوارعها، وجاء عليها السيف من كل جانب (٤٨).
ومع أن صيدون أخربت عدة مرات، إلا أن أهلها أعادوا بناءها. ويسكنها اليوم حوالي ٢٥ ألفاً. سالت الدماء فيها مراراً، ولكنها بقيت قائمة حتى اليوم. وفي أثناء الحروب الصليبية وقعت في أيدي الصليبيين ثلاث مرات، واستردها المسلمون ثلاث مرات. وفي العصور الحديثة كانت موضع نزاع بين الأتراك والدروز، ثم بين الأتراك والفرنسيين، وفي سنة ١٨٤٠ م اشتركت أساطيل بريطانيا وفرنسا وتركيا في ضربها (٤٨).
لقد كان تاريخ صيدون تاريخ الدم والحرب، لكنها بقيت إلى اليوم!
ومن هذا نرى بوضوح:
لم يكن عقل بشري منذ ٢٥٠٠ سنة يعقل أن صور ستنتهي وأن صيدون ستبقى وتجوز الأهوال، فقد كان الأقرب للحكمة البشرية أن يحدث العكس!
أن نبوة حزقيال اليوم تشبه من يتحدث عن لوس أنجيلوس وسان فرنسيسكو. أيهما تسقط وأيهما تبقى، أو هل تسقطان. أو هل تقومان؟ ولكن حزقيال بروح النبوة قال إن صور ستسقط وإن صيدون ستمرّ بتاريخ دموي، وهكذا كان!
تنبأ النبيان هوشع وميخا ضد السامرة، قالا:
هوشع ١٣:
١٦ «تتُجَازَى ٱلسَّامِرَةُ لأَنَّهَا قَدْ تَمَرَّدَتْ عَلَى إِلَهِهَا. بِٱلسَّيْفِ يَسْقُطُونَ. تُحَطَّمُ أَطْفَالُهُمْ، وَٱلْحَوَامِلُ تُشَقُّ».
ميخا ١:
٦ «فَأَجْعَلُ ٱلسَّامِرَةَ خَرِبَةً فِي ٱلْبَرِّيَّةِ، مَغَارِسَ لِلْكُرُومِ، وَأُلْقِي حِجَارَتَهَا إِلَى ٱلْوَادِي، وَأَكْشِفُ أُسُسَهَا».
وفي هذه النبوة نرى الحقائق الأتية عن السامرة:
- تسقط السامرة بعنف (هوشع).
- تصبح كومة خراب في البرية (ميخا).
- تزرع الكروم في موقعها (ميخا).
- تُرمى حجارتها في الوادي (ميخا).
- تُكتشف أساساتها (ميخا).
وتاريخ السامرة قصير نسبياً وعاصف جداً، فقد كانت عاصمة المملكة اليهودية الشمالية (إسرائيل) وفيها حدث الإرتداد عن عبادة يهوه. وقد حاصر شملنأصر السامرة، وأكمل سرجون الحصار واستولى على المدينة عام ٧٢٢ ق.م، ثم استولى عليها الإسكندر عام ٣٣١ ق.م، ثم استولى عليها جون هيركانوس عام ١٢٠ ق.م. وقد أحدث كل من الغزاة الثلاثة الخراب في المدينة وقُتل الكثيرون من سكانها (وهكذا تحققت النبوة رقم ١).
يقول أحد المؤرخين سنة ١٦٩٧ إن سابستا هي السامرة القديمة، وقد صارت الآن مزارع للكروم، ولم يبق فيها سوى بعض الأعمدة في الجزء الشمالي لتنبئ عن مكان السامرة القديمة التي كانت عاصمة لعشرة أسباط من اليهود، بعد انفصالهم عن حكم عائلة الملك داود! أما في الجزء الشرقي فأطلال كنيسة كبيرة. ولا يزال تل «سابستا» خصباً مزروعاً بالكروم والتين والزيتون. ولما كانت الأرض تُحرَث باستمرار، فمن الصعب العثور على أسس وحجارة المدينة القديمة. (وهكذا تحققت النبوتان رقم ٢،٣).
أما تحقيق النبوتين ٤،٥ فتقرأه في وصف زائر لها يقول: «السامرة كومة كبيرة من الأحجار. لكن أحجارها أُلقيت في الوادي. وقد اكتُشفت الأحجار القديمة الرمادية لقصور عمري وأخاب ملقاة على جوانب التل!) (٤٩»).
واليوم نرى قمة التل، حيث كانت السامرة، مزروعاً. ونرى وسط الزراعة أساسات الأعمدة التي تبيّن موقع القصور القديمة. أما أسفل التل، في الوادي، فإننا نجد بقية أحجار أساسات المدينة! (وهكذا تحققت النبوتان ٤،٥).
ومن هذا نرى بوضوح:
يقول جون أركهارت: «لقد وقع الخراب على السامرة، وتحقق التنبؤ الذي طالما ضحك منه سامعوه. لقد أخذ المزارعون أحجار المدينة العظيمة وكّوَموه معاً أو رموه في الوادي حتى يهيئوا موقع السامرة للزراعة» (٤٨).
ويقول ستونر: «لو أن ميخا تنبأ هذه النبوات الخمس عن السامرة، بحكمته البشرية لكانت نسبة نجاحه واحداً ضرب ٤ (فرصة التنبؤ بالخراب) ضرب ٥ (فرصة أن تصبح كومة) ضرب ١٠٠ (فرصة أن يُزرع مكانها بالكروم) ضرب ١٠ (فرصة أن تُرمى حجارتها في الوادي) ضرب ٢ (فرصة كشف أساساتها) – أي فرصة واحدة من أربعين ألف فرصة!» (٤٢).
لقد وقع الخراب على السامرة، وتحققت النبوة ضدها، لأنها عبدت الوثن، وارتدت عن عبادة الإله الحقيقي.
غزة وأشقلون مدينتان على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، غربي البحر الميت، وقد جاء ذكرها في النبوات.
عاموس ١: (٧٧٥-٧٥٠ ق.م).
٨ «وَأَقْطَعُ ٱلسَّاكِنَ مِنْ أَشْدُودَ، وَمَاسِكَ ٱلْقَضِيبِ مِنْ أَشْقَلُونَ، وَأَرُدُّ يَدِي عَلَى عَقْرُونَ، فَتَهْلِكُ بَقِيَّةُ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ» قَالَ ٱلسَّيِّدُ ٱلرَّبُّ.
إرميا ٤٧: (٦٢٦-٥٨٦ ق.م).
٥ «أَتَى ٱلصُّلْعُ عَلَى غَّزَةَ. أُهْلِكَتْ أَشْقَلُونُ مَعَ بَقِيَّةِ وَطَائِهِمْ. حَتَّى مَتَى تَخْمِشِينَ نَفْسَكِ؟».
صفنيا ٢: (٦٤٠-٦٢١ ق.م).
٤ «لأَنَّ غَّزَةَ تَكُونُ مَتْرُوكَةً، وَأَشْقَلُونَ لِلْخَرَابِ. أَشْدُودُ عِنْدَ ٱلظَّهِيرَةِ يَطْرُدُونَهَا، وَعَقْرُونُ تُسْتَأْصَلُ».
٦ «وَيَكُونُ سَاحِلُ ٱلْبَحْرِ مَرْعًى بِآبَارٍ لِلرُّعَاةِ وَحَظَائِرَ لِلْغَنَمِ».
٧ «وَيَكُونُ ٱلسَّاحِلُ لِبَقِيَّةِ بَيْتِ يَهُوذَا. عَلَيْهِ يَرْعُونَ. فِي بُيُوتِ أَشْقَلُونَ عِنْدَ ٱلْمَسَاءِ يَرْبُضُونَ، لأَنَّ ٱلرَّبَّ إِلَهَهُمْ يَتَعَهَّدُهُمْ وَيَرُدُّ سَبْيَهُمْ».
ملحوظة: أشدود مدينة أخرى غير أشقلون، على بعد عشرة أميال شمال أشقلون، وتقع على الشاطئ أيضاً.
وفي هذه النبوة نرى الحقائق التالية:
- الفلسطينيون لن يستمروا (عاموس ١: ٨).
- سيجيء الصُّلع إلى غزة (إرميا ٤٧: ٥).
- سيجيء الخراب على أشقلون (صفنيا ٣: ٤).
- تكون منطقة أشقلون للرعي (صفنيا ٢: ٦).
- بقية بيت يهوذا يسكنون أشقلون (صفنيا ٢: ٧).
يقول جورج ديفس في كتابه «نبوات الكتاب تتحقق اليوم»: «لقد جاء القضاء على الفلسطينيين كما قالت النبوات، فقد أخرب السلطان بيبرس أشقلون عام ١٢٧٠ م وملأ ميناءها بالأحجار. ومنذ ذلك التاريخ، لنحو ٧٠٠ سنة، خربت أشقلون المدينة التي كانت عظيمة ناجحة» (٥٠) (وهكذا تحققت النبوة رقم ٣).
ويضيف بيتر ستونر: «ومنذ أخربها السلطان بيبرس عام ١٢٧٠ م صارت أرض رعي، وعلى موقعها اليوم أكواخ ومراع» (٤٢). (وهكذا تحققت النبوة رقم ٤).
ويمضي جورج ديفس ليقول: «ولم تُخرب أشقلون فقط، لكن كل الدولة الفلسطينية قُطعت كما تنبأ النبي حزقيال منذ ٢٥٠٠ سنة، حتى أنه لا يوجد فلسطيني واحد حي في العالم اليوم» (٥٠) (المقصود بكلمة فلسطيني هنا: «الشعب الذي كان يسكن في فلسطين وقت إعلان نبوة حزقيال ٢٥: ١٥-١٧، منذ ٢٥٠٠ سنة») (وهكذا تحققت النبوة رقم ١).
ويقول فلويد هاملتون: «كانت في أشقلون كتيبة تركية حتى القرن السابع عشر، لكن منذ ذلك الوقت هجرت أشقلون. وتوجد اليوم أجزاء من سوريا وقلاعها الحربية. وهي الوحيدة في مدن ذلك السهل التي بقي جزء من سورها!» (٥١) – (وهذا تحقيق لنبوة رقم ٣).
ويقول هاملتون عن تحقيق النبوة الخامسة: «لا زالت بعض حوائط البيوت قائمة. ولو أن الموقع كله مهجور. حتى الذين زرعوا الحدائق داخل الأسوار يسكنون بعيداً عنها».
ويصف جورج ديفس الموقع الآن فيقول: «عندما جاء اليهود إلى المكان قرروا أن يجعلوا أشقلون مدينة حدائق، باسم «جاردن سيتي» وهكذا تحقق قول النبي: «في بيوت أشقلون عند المساء يربُضون» (نبوة رقم ٥).
أما مدينة غزة فلها تاريخ أعجب، ويقول بيتر ستونر: «توجد مدينة اليوم باسم غزة، ولذلك ظن كثيرون أن هذه النبوة عن غزة نبوة خاطئة. ثم حدثت دراسة دقيقة لموقع غزة كما جاء في الكتاب المقدس، فظهر أن غزة الحديثة ليست على موقع غزة القديمة. وتمت الحفريات في موضع المدينة القديمة فوجدت المدينة مدفونة تحت الرمال. لقد صارت فعلاً صلعاء! فأي وصف تعطيه لمدينة مدفونة تحت كثبان الرمال، أفضل من أنها صارت صلعاء؟!» (٤٢) – (وهكذا تحققت نبوة رقم ٢).
ويعلّق جون أوركهات على اختفاء غزة فيقول: «لقد ظهر أن غزة القديمة دفنت تحت الرمال تماماً، وأن المدينة الحديثة لم تُبْنَ على الموقع القديم. أما غزة الفلسطينيين القديمة فهي على بعد ميلين من الشاطئ، وهي الآن مجموعة تلال رملية. وهي «صلعاء» حتى لا يظهر حجر أو عامود للدلالة على المدينة القديمة، والعين لا ترى فيها حتى ورقة نبات أخضر!» (٤٩).
ومن هذا نرى بوضوح:
يقول بيتر ستونر: «الإحتمالات البشرية في تحقيق هذه النبوات هي واحد ضرب ٥ (أن الفلسطينيين يختفون) ضرب ١٠٠ (أن تغطي الرمال غزة) ضرب ٥ (أن أشقلون تُخرب) ضرب ٥ (أن تكون أشقلون أرض رعي).. أو أن فرصة تحقيق النبوة هي فرصة واحدة من ١٢ ألف فرصة!» (٤٢).
موآب وعمون مملكتان صغيرتان شرقي البحر الميت، وتقع عمون إلى شمال موآب. وقد وقعتا تحت العقاب الإلهي.
حزقيال ٢٥: (٥٩٢-٥٧٠ ق.م).
٣ «وَقُلْ لِبَنِي عَمُّونَ: ٱسْمَعُوا كَلاَمَ ٱلسَّيِّدِ ٱلرَّبِّ. هَكَذَا قَالَ ٱلسَّيِّدُ ٱلرَّبُّ: مِنْ أَجْلِ أَنَّكِ قُلْتِ: هَهْ! عَلَى مَقْدِسِي لأَنَّهُ تَنَجَّسَ، وَعَلَى أَرْضِ إِسْرَائِيلَ لأَنَّهَا خَرِبَتْ، وَعَلَى بَيْتِ يَهُوذَا لأَنَّهُمْ ذَهَبُوا إِلَى ٱلسَّبْيِ».
٤ «فَلِذَلِكَ هَئَنَذَا أُسَلِّمُكِ لِبَنِي ٱلْمَشْرِقِ مِلْكاً فَيُقِيمُونَ صِيَرَهُمْ فِيكِ وَيَجْعَلُونَ مَسَاكِنَهُمْ فِيكِ. هُمْ يَأْكُلُونَ غَلَّتَكِ وَهُمْ يَشْرَبُونَ لَبَنَكِ»
إرميا ٤٨: (٢٦٦-٥٦٨ ق.م).
٤٧ «وَلٰكِنَّنِي أَرُدُّ سَبْيَ مُوآبَ فِي آخِرِ ٱلأَيَّامِ يَقُولُ ٱلرَّبُّ».
إرميا ٤٩:
٦ «ثُمَّ بَعْدَ ذٰلِكَ أَرُدُّ سَبْيَ بَنِي عَمُّونَ يَقُولُ ٱلرَّبُّ».
في هذه النبوات نرى الحقائق التالية:
- سيأخذ بنو المشرق البلاد، ويسلبون غلّتها (حزقيال ٢٥: ٤).
- سيأخذ بنو المشرق بلاد عمون ويبنون مساكنهم فيها (حزقيال ٢٥: ٤).
- أهل موآب وعمون الأصليون سيستعيدون أرضهم (إرميا ٤٨: ٤٧، ٤٩: ٦).
ولندرس تاريخ هذه البلاد وهذه النبوات ماثلة في أذهاننا. يقول هوارد فوس: «أن دراسة طبوغرافية هذه البلاد تظهر طبيعتها الجبلية الحصينة، وتوضح لنا كيف أرسل بعشا العموني جيشاً من عشرة آلاف مقاتل إلى كارجار سنة ٣٥٤ ق.م ليحارب شلمنأصر ملك أشور. وقد كانت تلك الدولة في قمة غناها وقوتها وقت أن قال إرميا أن ربة عمون (العاصمة) ستصير خراباً، حتى إن سامعي نبّوته لا بد شكوا في احتمال تحقيقها» (٥٢).
ويوضح فوس كيف تحققت النبوتان ١، ٢ عندما بنى الأمير عبد الله حاكم شرق الأردن قصره هناك، وهكذا بنى بنو المشرق مساكنهم في العاصمة ربة. واليوم يسكن «عمون» عشرون ألفاً، (١٩٣١)، وهي تقع على خط سكة حديد دمشق – الحجاز. وقد زاد عدد السكان زيادة كبيرة، خصوصاً لو عرفنا أن عددهم سنة ١٩٢٠ كان بضع مئات فقط! (٥٢).
ويصف فوس كيف أن بني المشرق «يرثون» اليوم موآب فعلاً. ولكن الوقت سيجيء عندما تتحقق نبوة إرميا عن استعادة موآب وعمون الأصليون لأرضهم. إن عمان عاصمة شرق الأردن هي ربة بني عمون القديمة التي استولى عليها يوآب قائد جيش الملك داود. ومنذ بضع سنوات كان عدد سكانها مئات فقط. ويُحتمل أن السكان الحاليين ليسوا هم أحفاد السكان الأصليين (٥٢).
ويقول بيتر ستونر إن فرصة تحقيق هذه النبوات هي فرصة واحدة من خمس في أن بني المشرق يستولون عليها، وفرصة من عشر أن يبنوا قصورهم فيها، وفرصة من عشرين في أن يعود الموآبيون والعمونيون إليها. أي أن تحقيق هذه كلها له فرصة من ألف فرصة (٤٢).
آدوم دولة جنوب شرق البحر الميت، عاصمتها البتراء. ولا بد أنها كانت شريرة فعلاً حتى أن ستة أنبياء تكلموا ضدها هم: إشعياء، إرميا، حزقيال، يوئيل، عاموس، عوبديا.
والنبوات ضد آدوم كثيرة ودقيقة، ولا توجد عندنا فسحة كافية من الصفحات لمعالجتها، ولكننا نقدم هنا بعضها:
إشعياء ٣٤: (٧٨٣-٧٠٤ ق.م).
٦ «لِلرَّبِّ سَيْفٌ قَدِ ٱمْتَلأَ دَماً، ٱطَّلَى بِشَحْمٍ، بِدَمِ خِرَافٍ وَتُيُوسٍ، بِشَحْمِ كُلَى كِبَاشٍ. لأَنَّ لِلرَّبِّ ذَبِيحَةً فِي بُصْرَةَ وَذَبْحاً عَظِيماً فِي أَرْضِ أَدُومَ».
٧ «وَيَسْقُطُ ٱلْبَقَرُ ٱلْوَحْشِيُّ مَعَهَا وَٱلْعُجُولُ مَعَ ٱلثِّيرَانِ، وَتُرْوَى أَرْضُهُمْ مِنَ ٱلدَّمِ، وَتُرَابُهُمْ مِنَ ٱلشَّحْمِ يُسَمَّنُ».
١٠ «لَيْلاً وَنَهَاراً لاَ تَنْطَفِئُ. إِلَى ٱلأَبَدِ يَصْعَدُ دُخَانُهَا. مِنْ دَوْرٍ إِلَى دَوْرٍ تُخْرَبُ. إِلَى أَبَدِ ٱلآبِدِينَ لاَ يَكُونُ مَنْ يَجْتَازُ فِيهَال».
١٣ «وَيَطْلَعُ فِي قُصُورِهَا ٱلشَّوْكُ. ٱلْقَرِيصُ وَٱلْعَوْسَجُ فِي حُصُونِهَا فَتَكُونُ مَسْكَناً لِلذِّئَابِ وَدَاراً لِبَنَاتِ ٱلنَّعَام»ِ.
١٤ « وَتُلاَقِي وُحُوشُ ٱلْقَفْرِ بَنَاتِ آوَى، وَمَعْزُ ٱلْوَحْشِ يَدْعُو صَاحِبَهُ. هُنَاكَ يَسْتَقِرُّ ٱللَّيْلُ وَيَجِدُ لِنَفْسِهِ مَحَلاًّ».
١٥ «هُنَاكَ تُحْجِرُ ٱلنَّكَّازَةُ (نوع من الحيّات) وَتَبِيضُ وَتُفْرِخُ وَتُرَبِّي تَحْتَ ظِلِّهَا. وَهُنَاكَ تَجْتَمِعُ ٱلشَّوَاهِينُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ».
إرميا ٤٩: (٦٢٦-٥٨٦ ق.م).
١٧ «وَتَصِيرُ أَدُومُ عَجَباً. كُلُّ مَارٍّ بِهَا يَتَعَجَّبُ وَيَصْفِرُ بِسَبَبِ كُلِّ ضَرَبَاتِهَا».
١٨ «كَٱنْقِلاَبِ سَدُومَ وَعَمُورَةَ وَمُجَاوَرَاتِهِمَا يَقُولُ ٱلرَّبُّ لاَ يَسْكُنُ هُنَاكَ إِنْسَانٌ وَلاَ يَتَغَرَّبُ فِيهَا ٱبْنُ آدَمَ».
حزقيال ٢٥: (٥٩٢-٥٧٠ ق.م).
١٣ «لِذَلِكَ هَكَذَا قَالَ ٱلسَّيِّدُ ٱلرَّبُّ: وَأَمُدُّ يَدِي عَلَى أَدُومَ وَأَقْطَعُ مِنْهَا ٱلْإِنْسَانَ وَٱلْحَيَوَانَ، وَأُصَيِّرُهَا خَرَاباً. مِنَ ٱلتَّيْمَنِ وَإِلَى دَدَانَ يَسْقُطُونَ بِٱلسَّيْفِ».
١٤ «وَأَجْعَلُ نَقْمَتِي فِي أَدُومَ بِيَدِ شَعْبِي إِسْرَائِيلَ، فَيَفْعَلُونَ بِأَدُومَ كَغَضَبِي وَكَسَخَطِي، فَيَعْرِفُونَ نَقْمَتِي يَقُولُ ٱلسَّيِّدُ ٱلرَّبُّ».
حزقيال ٣٥:
٥ «لأَنَّهُ كَانَتْ لَكَ بُغْضَةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَدَفَعْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى يَدِ ٱلسَّيْفِ فِي وَقْتِ مُصِيبَتِهِمْ، وَقْتِ إِثْمِ ٱلنِّهَايَةِ».
٦ «لِذَلِكَ حَيٌّ أَنَا يَقُولُ ٱلسَّيِّدُ ٱلرَّبُّ إِنِّي أُهَيِّئُكَ لِلدَّمِ وَٱلدَّمُ يَتْبَعُكَ. إِذْ لَمْ تَكْرَهِ ٱلدَّمَ فَٱلدَّمُ يَتْبَعُكَ».
٧ «فَأَجْعَلُ جَبَلَ سَعِيرَ خَرَاباً وَمُقْفِراً، وَأَسْتَأْصِلُ مِنْهُ ٱلذَّاهِبَ وَٱلآئِبَ»!
في هذه النبوات نرى الحقائق التالية:
- أدوم تصير خراباً (إشعياء ٣٤: ١٣).
- لن تسكن للأبد (إرميا ٤٩: ١٨).
- يهزمها الوثنيون (حزقيال ٢٥: ١٤).
- تهزمها إسرائيل (حزقيال ٢٥: ١٤).
- تاريخها دموي (حزقيال ٣٥: ٥،٦، إشعياء ٣٤: ٦،٧).
- تخرب أدوم حتى مدينة التيمن (حزقيال ٢٥: ١٣).
- تسكنها الحيوانات المتوحشة (إشعياء ٣٤: ١٣-١٥).
- تتوقف تجارتها (حزقيال ٣٥: ٧، إشعياء ٣٤: ١٠).
- يتعجب الناظرون إليها (إرميا ٤٩: ١٧)
وهذه النبوات المخيفة من أدوم سببها أنها ابتعدت عن الله، وآذت شعبه. وهذه النبوات تفصيل للنبوة الأصلية في يوئيل ٣: ١٩،٢٠. وعندما يزور الناس موقع أدوم اليوم ينذهلون من دقة تحقيق نبوة إشعياء ٣٤.
ونقدم هنا تاريخ أدوم، قبل هذه النبوات، وبعدها:
أما تاريخ أدوم قبل هذه النبوات فهو عاصف لا يهدأ. فبعد موت الملك شاول أظهر أهل أدوم عداوتهم لأسرائيل، وإذ كان الملك داود مشغولاً بإخضاع الملك هدد عزر ملك صوبة في شمال سوريا، هاجم الأدوميون الجزء الجنوبي من أرض يهوذا مهددين العاصمة أورشليم، فرجع داود وهاجم أدوم وقتل ١٨ ألف أدومياً في وادي الملح جنوب البحر الميت. وظلت أدوم خاضعة لمملكة يهوذا حتى حكم يهورام من ٨٥٣-٨٤١ ق.م. وبعد موت يهورام بخمسين سنة غزا أمصيا ملك يهوذا أدوم واستولى على حصنها سالع (سالع كلمة عبرية معناها صخرة، والبتراء هي كلمة صخرة في اللغة اليونانية).
وبعد اضمحلال أشور زحفت جحافل الكلدانيين على شرق الأردن والتهمت أدوم وأمماً أخرى (٥٢).
أما تاريخ أدوم بعد هذه النبوات، فإن سقوط مملكة أشور كان الموعد التقريبي لاتمام النبوات ضد أدوم.. أما بقية تاريخ أدوم فهو ما حدث بعد أن تحققت النبوات. ولعل النبطيين هم «بنو المشرق» المذكورون في حزقيال ٢٥: ٤، في القرن السادس ق.م. ومن المكابيين الأول ٥: ٣ نرى أن اليهود هزموا أدوم. ويقول يوسيفوس أن هيركانوس وسمعان الجيراسي هاجما أدوم تباعاً. وهكذا تحققت هذه النبوة.
في وقت ميلاد المسيح كانت البتراء مزدهرة، فقد كانت في طريق التجارة إلى آسيا، كما يقول المؤرخ سترابو وكانت سوقاً لتجارة العطور والأطياب العربية. وفي خلال الحكم الروماني جمعوا الأدوميون لليهود، وصار اسم المملكة الواحدة «أدومية». وقبيل حصار تيطس لأورشليم سمح لعشرين ألف أدومي بدخول المدينة المقدسة فعاثوا فيها سرقة وقتلاً. ومنذ ذلك الوقت اختفى ذكر الأدوميين (بني عيسو) من التاريخ! (٣٨).
وعندما احتاج اليهود إلى العون في إثناء الحصار الروماني (٧٠ م) كان الأدوميون أكثر ما يكونون أذى. وبعد مذبحة اليهود، عاد الأدوميون إلى بلادهم، ليختفي ذكرهم من صفحات التاريخ، ولو أن عاصمتهم البتراء استمرت. وتقول دائرة المعارف البريطانية إن اضمحلال البتراء بدأ قبل الغزو الإسلامي لها في القرن السابع الميلادي (نبوة رقم ٣). وقد بنى الصليبيون قلعة هناك في القرن الثاني عشر، واحتلها فيما بعد القبائل الرحَّل، وظلت على هذه الحال حتى اكتشف موقعها الرحالة السويسري بوركهارت عام ١٨١٢ (٣٧) – (وهكذا تحققت النبوة رقم ٨).
ويقول هنري موريس أن أدوم تُذكر كثيراً في الكتاب المقدس، ولكنها سقطت من تاريخ العالم حتى القرن التاسع عشر. وقد ظن بعض النقاد أن أدوم لم يكن لها وجود، حتى ظهرت كتابات عنها في الآثار المصرية والأشورية، وأخيراً أظهرت الحفريات أطلال البتراء نفسها، مدينة الصخرة، فأفحم النقاد الذين كانوا يظنونها أسطورة (٤٣)
كانت البتراء إحدى عجائب العالم القديم، مبنية في جبل صخري، وكان الكثير من أبنيتها محفوراً في الصخر الأحمر الوردي، فكانت رائعة الجمال، مستحيلة على الغزاة، لها مدخل واحد ضيق يشبه الخندق يمكن أن تحميه فرقة صغيرة من العسكر تهزم جيشاً كبيراً من الأعداء.
ولكن ما هو حال البتراء اليوم؟ يصفها جورج آدم سميث مقتبساً من كتّاب مختلفين يقول:
«لقد تمت هذه النبوات عن أدوم بدقة متناهية. إن أصوات الشواهين والصقور والبوم الكثير، تملأ المكان وتزيده وحشة. لقد قال النبي أنها تصير مسكن النكّازة (أي الحيّات) وهي اليوم تعج بالسحالي والثعابين والعقارب التي يخشاها الناس.. وقد قال الأدلاّء لبعض السياح إنهم كثيراً ما رأوا الأسود والنمور في البتراء، ولو أنها لم تنزل إلى الوادي. ويذكر النبي «معز الوحش» وهي في العبرية «الساطير» التي تعني «ذات الشعر». وقد وجد الكثير منه على الجبال في البتراء» (وهكذا تحققت النبوات رقم ١، ٢، ٧، ٩) (٥٣).
وقد جاء النبطيون بعد الأدوميين وأسسوا حضارة عظيمة استمرت قروناً، ولكن الله قال أن أدوم ستصير خراباً، واليوم نجد أن أدوم صحراء، تحقيقاً حرفياً للنبوة. لقد كان مسرحها يسع أربعة آلاف متفرج، لكنها اليوم خراب كامل، تتغطّى أرضها بأعمدة محطمة وأحجار مبعثرة، تختفي فيها العقارب والثعابين والسحالي وتسكنها البوم. لقد قال بركهارت إنه لم يعرف الخوف في حياته حتى زار البتراء، عندما زعقت فيها بنات آوى ليلاً. إن الأحجار التي كانت قصوراً عظيمة أصبحت مبعثرة يحيط بها العوسج والأشواك (أش ٣٤: ١٠-١٤، إرميا ٤٩: ١٦).
أنك عندما ترى البتراء تشعر بالرهبة والتواضع، فقد سقطت العظمة والقوة وصارت حطاماً موحشاً. ويقول ألكسندر كيث: «أود لو أن المتشكك وقف حيث وقفت أنا بين أحجار وخرائب هذه المدينة العظيمة، وفتح الكتاب المقدس ليقرأ ما خطه الأنبياء عن مصير هذه المدينة العظيمة. إنني أتخيل وجهه يشحب وشفتيه ترتعشان وقلبه يرجف من الخوف، فإن المدينة تصرخ بصوت قوي عال وكأنها ميت قام من الأموات! وقد لا يؤمن المتشكّك بكلمات موسى والأنبياء، لكنه لا بد يؤمن وهو يرى كتابة أصبع الله على الخراب المحيط به!» (٥٤).
ومن هذا نرى بوضوح:
تحققت النبوة رقم (١) وصارت أدوم خراباً، ولم تعد مكان سكن، وهكذا تحققت النبوة رقم (٢). واستولى عليها الوثنيون كما استولى عليها اليهود، فتحققت نبوتا ٣، ٤. وعندما تنبأ حزقيال (٢٥: ١٤) أن إسرائيل ستهزم أدوم، كانت إسرائيل في السبي، لكن بعد أربعة قرون هزم يهوذا المكابي ويوحنا هيركانوس أدوم، وقتلوا الآلاف، واضطر الباقون إلى ممارسة الختان ليصيروا يهوداً!.
أما عن النبوة رقم (٥) فإننا نرى تاريخ أدوم الدموي، فقد غزتها أشور واستعبدتها، ثم أخذها نبوخذ نصر، ثم النبطيون. وأخيراً قتل يهوذا المكابي أربعين ألفاً منهم.
أما النبوة رقم (٦) عن التيمن – أو معان كما تسمى الآن – فإن هذه المدينة لا تزال عامرة على الحدود الشرقية لأرض أدوم، والوحيدة المأهولة بالسكان من كل بلاد أدوم القديمة. فهل يكون تحقيق النبوات بدقة أكثر من هذا فكِّر في كيف يختار النبي مدينة واحدة من بين كل مدن أدوم يقول إنها ستبقى، بينما تهلك كل الدول! لا يمكن أن يكون هذا إلا لأن النبي حزقيال (٢٥: ١٣) كان يتكلم بكلام الله (٥١).
تحدثنا عن تحقيق النبوة رقم ٧ فقد سكنت أدوم الحيوانات المتوحشة. أما النبوة رقم ٨ عن توقُّف تجارة أدوم، فلم يكن منتظراً أن يحدث، لأن أدوم تقع على طريق تجارة دولي، ولكن هذا ما حدث فعلاً! ولم تعد قافلة واحدة تعبر البلاد. وقد تحققت النبوة رقم ٩، ويتعجب اليوم كل الناظرين إلى هذه البلاد الجبلية الحصينة كيف صارت إلى هذه الحالة من الخراب!
ويقول بيتر ستونر إن احتمال تحقيق ثلاث فقط من هذه النبوات أمر مذهل (١) ١ ضرب ١٠ أن تهزم أدوم (٢) ١ ضرب ١٠ إلا تُسكن (٣) ١ ضرب ١٠٠ أن تصير خراباً. وهذا يعطي احتمال تحقيق النبوة فرصة واحدة في عشرة آلاف فرصة!
لقد كانت أدوم مستطيلة الشكل، ١١٠ ميلاً بالطول وستين ميلاً بالعرض (نحو ٦٦٠٠ ميلاً مربعاً). ولنفترض أن هناك محافظة بهذه المساحة، ولنفرض أن نبياً جاء يقول إن هذه المحافظة (١) ستصير خراباً (٢) لن يسكنها أحد (٣) يهزمها قادمون من الشرق من جهة البحر (٤) يهزمها أيضاً قادمون من الشمال (٥) مستقبلها دموي أكثر من كل ما حولها (٦) ستخرب كلها حتى موقع معين (٧) تسكنها الحيوانات الوحشية.
أن احتمال تحقيق هذه كلها معاً هي فرصة واحدة في ٣٠٠ مليون فرصة! ومن المذهل أن كل ما قاله الأنبياء عن أدوم قد تحقق بحذافيره!
تنبأ حزقيال عن مدن مصرية كثيرة، نأخذ منها مدينتين كمثل:
حزقيال ٣٠: (٥٩٢-٥٧٠ ق.م).
١٣ «هَكَذَا قَالَ ٱلسَّيِّدُ ٱلرَّبُّ. وَأُبِيدُ ٱلأَصْنَامَ وَأُبَطِّلُ ٱلأَوْثَانَ مِنْ نُوفَ (ممفيس). وَلاَ يَكُونُ بَعْدُ رَئِيسٌ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، وَأُلْقِي ٱلرُّعْبَ فِي أَرْضِ مِصْرَ».
١٤ «وَأُخْرِبُ فَتْرُوسَ وَأُضْرِمُ نَاراً في صُوعَنَ وَأُجْرِي أَحْكَاماً فِي نُوَ» (طيبة).
١٥ «وَأَسْكُبُ غَضَبِي عَلَى سِينَ حِصْنِ مِصْرَ، وَأَسْتَأْصِلُ جُمْهُورَ نُوَ».
وفي هذه النبوات نرى الحقائق التالية:
- إبادة أصنام ممفيس (حزقيال ٣٠: ١٣).
- تُخرب طيبة وتحترق (حزقيال ٣٠: ١٤).
- يستأصل جمهور طيبة (حزقيال ٣٠: ١٣).
- لا يكون بعد رئيس من أرض مصر (حزقيال ٣٠: ١٣).
قال جون أركهارت أن نوف كان الإسم القديم الذي أطلقه المصريون على ممفيس، التي أسسها الملك منيس (مينا) وفيها وضعت الإجراءات لعبادة الآلهة المصرية وخدمة الهياكل، ولا بد أنها كانت موضع التكريم الكامل. وكانت ممفيس عاصمة مصر الوسطى عامرة بالأصنام. ومع أننا لا نملك تسجيلاً لغزو نبوخذ نصر لممفيس وتخريبها، إلا أن هيرودوت يقول أن قمبيز أخذ سين (تل الفرما الحالية) وهي نقطة الدفاع الرئيسية عن مصر.. أخذها بحيلة ماكرة، ذلك أنه وضع أمام جيشه قططاً وغيرها من الحيوانات التي يعبدها المصريون فلم يرفع مصري سلاحاً ضده. ثم ذبح العجل أبيس وأحرق أصنام مصر، وكان ذلك في عام ٥٢٥ ق.م. وهكذا تحققت النبوة رقم ١.
ويقول أركهارت إن الذي يفحص حالة ممفيس زمن المسيح يتحقق استحالة تحقيق هذه النبوات، وقد رأى سترابو أن ممفيس كانت ثاني مدن مصر مساحة بعد الإسكندرية، ولكن تأسيس القاهرة جعل ممفيس تضمحل في القرن السابع الميلادي حتى تلاشت، ومنذ قرن من الزمان كان موضع ممفيس محل تساؤل. وسجل إركهارت انطباعات بعض زّوارها، فقد اندهش ولكنسون لضئالة ما بقي من هذه المدينة الكبيرة، واندهشت أماليا إدوادز (في كتابها: رحلة ألف ميل على النيل) من أن ما تبقى منها لا يسترعي الإلتفات حتى ليصعب تصديق أن مدينة عظيمة كانت موجودة في هذا المكان (٤٩).
أما تاريخ طيبة فيختلف عن ذلك. لقد تلّقّت طيبة خبطتين طرحتاها أرضاً، وذلك بعد هذه النبوات. يقول إركهارت أن حزقيال عاش في أثناء حكم نبوخذ نصر، وبعده بثلاثة عشر عاماً أصبحت مملكة فارس هي الإمبراطورية السائدة، وفي سنة ٥٢٥ ق.م غزا قمبيز مصر وأخرب طيبة وأحرق هياكلها وحاول تحطيم التماثيل العظيمة. وقد قامت طيبة من هذه الكبوة بعد أن أصابها عرج! ثم جاءت ضربة ثانية على طيبة في القرن الأول ق.م، ففي سنة ٨٩ حوصرت المدينة ثلاث سنوات، وسقطت أخيراً سقوطاً عظيماً، لم تقم بعده (٤٩).
كانت طيبة أغنى البلاد، محيط دائرتها ميل وثلاثة أرباع الميل، وسُمك سورها ثمانية أمتار وارتفاعه ٢٢ متراً، ومنتجاتها قمة في الدقة الصناعية. ويقول سترابو الذي رأى المدينة عام ٢٥ ق.م أنها قد انحطّت إلى قرية صغيرة، وهذا تحقيق للنبوة.
وللمقارنة بين مصير ممفيس وطيبة نرى أن طيبة تنكسر ويستأصل سكانها، أما ممفيس فتبطل أصنامها. وقد حدث فعلاً أن بقيت أصنام طيبة وتماثيلها، بينما تحطمت أصنام ممفيس. أهل طيبة استؤصلوا، وأهل ممفيس بقوا! يا له من تحقيق رائع للنبوة! كيف اختار النبي ممفيس دون مدن مصر القديمة ليقول أن أصنامها ستتحطم؟ (٥١).
ولقد تحققت النبوة الرابعة أنه لا يكون بعد رئيس من أرض مصر، فكان الحاكم أجنبياً لقرون طويلة، فقد أخذ الفرس مصر سنة ٥٢٥ ق.م، وبعدها توالى الغزاة!
إن هذه النبوات تخبرنا أن الله يقاوم المستكبرين! وأنه لا بد أن يتمم وعده ووعيده. (٤٩).
كانت نينوى وبابل مدينتين عظيمتين في العالم القديم، قويتين، مأهولتين بالسكان، غالبتين في الحروب. وفي إبان عظمتهما توالت النبوات عليهما بالخراب، وكان سقوطهما عظيماً. سقطت نينوى بعد حصار قصير جداً استغرق ثلاثة شهور، وسقطت بابل بدون قتال!
وسندرس أولاً النبوة عن نينوى عاصمة الإمبراطورية الأشورية، وقد دعاها النبي ناحوم للتوبة، لكنها لم تتب، فسقطت.
ناحوم (٦٦١ إلى ما قبل ٦١٢ ق.م).
١: ٨ «وَلكِنْ بِطُوفَانٍ عَابِرٍ يَصْنَعُ هَلاَكاً تَامّاً لِمَوْضِعِهَا، وَأَعْدَاؤُهُ يَتْبَعُهُمْ ظَلاَمٌ…».
١: ١٠ «فَإِنَّهُمْ وَهُمْ مُشْتَبِكُونَ مِثْلَ ٱلشَّوْكِ وَسَكْرَانُونَ كَمِنْ خَمْرِهِمْ، يُؤْكَلُونَ كَٱلْقَشِّ ٱلْيَابِسِ بِٱلْكَمَالِ».
٢: ٦ «أَبْوَابُ ٱلأَنْهَارِ ٱنْفَتَحَتْ، وَٱلْقَصْرُ قَدْ ذَابَ».
٣: ١٠ «هِيَ أَيْضاً قَدْ مَضَتْ إِلَى ٱلْمَنْفَى بِٱلسَّبْيِ، وَأَطْفَالُهَا حُطِّمَتْ فِي رَأْسِ جَمِيعِ ٱلأَزِقَّةِ، وَعَلَى أَشْرَافِهَا أَلْقُوا قُرْعَةً، وَجَمِيعُ عُظَمَائِهَا تَقَيَّدُوا بِٱلْقُيُودِ».
٣: ١٣ «هُوَذَا شَعْبُكِ نِسَاءٌ فِي وَسَطِكِ. تَنْفَتِحُ لأَعْدَائِكِ أَبْوَابُ أَرْضِكِ. تَأْكُلُ ٱلنَّارُ مَغَالِيقَكِ».
٣: ١٩ «لَيْسَ جَبْرٌ لانْكِسَارِكَ. جُرْحُكَ عَدِيمُ ٱلشِّفَاءِ. كُلُّ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ خَبَرَكَ يُصَفِّقُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَيْكَ، لأَنَّهُ عَلَى مَنْ لَمْ يَمُرَّ شَرُّكَ عَلَى ٱلدَّوَامِ؟».
في هذه النبوات نرى الحقائق التالية:
- ستخرب نينوى وهي في حالة سُكر (ناحوم ١: ١٠).
- ستخرب في طوفان غامر (ناحوم ١: ٨،٢: ٦).
- ستحرق (ناحوم ٣: ١٣).
- ستخرب تماماً ولا تُبنى (ناحوم ٣: ١٩)
يمكن تحديد تاريخ نبوة ناحوم مما جاء في النبوة ذاتها، فإن التاريخ الأقدم ظاهر من حديث النبي عن حرب «نوأمون» (٣: ٨) التي هي طيبة. ونحن نعرف أن هذا حدث سنة ٦٦٣ ق.م على يد أشور بانيبال. أما التاريخ الأحدث فيظهر أيضاً مما جاء بالسفر نبوة عن الخراب الآتي على نينوى، وقد أخربت نينوى سنة ٦١٢ ق.م. فتكون كتابة السفر بعد ٦٦٣ وقبل ٦٢١ ق.م.
ولكي ندرك معنى النبوة عن الطوفان يجب أن نعرف أن أنهار نينوى لعبت جزءاً هاماً في تاريخها، فقد كانت تفيض على جانبيها باستمرار فتسقط القصور وتخرب المدينة. وقد عدّل سنحاريب، جد أشور بانيبال، مجرى النهر حتى يضمن انسياب الماء بدون تعاريج، وقّوى أساسات الهيكل حتى لا يضعف بتأثير الماء.
أما وسائل نينوى الدفاعية فكانت عظيمة، أعظم من كل المدن القديمة. فقد كان ارتفاع السور ٣٣ متراً (نحو عشرة طوابق) وسمكه ١٦ متراً (يكفي لمرور نحو ست عربات متجاورة) وكان ارتفاع أبراج السور ٦٦ متراً وكان لها ١٥ بوابة، والخندق المائي المحيط بها عرضه خمسون متراً، ومحيط دائرتها سبعة أميال. وكان على العدو الآتي على نينوى من الشرق (أضعف نقطة فيها) أن يهاجم سوراً تحصّنه القلاع، ثم خندقين، ثم سورين آخرين في مثل حجم السور الأول – كل هذا قبل الوصول إلى المدينة نفسها. وكانت المسافة بين السور الداخلي والسور الخارجي حوالي ٧٠٠ متراً. وتشهد البقايا الباقية اليوم من أسوار نينوى على صدق وصف ديودور الصقلي لعظمة وسائل الدفاع عن نينوى.
وكان سقوط نينوى سريعاً ومفاجئاً، بدأ بثورة بسماتيك المصري ضد الحكم الأشوري (نينوى عاصمة أشور). وقد قضت هذه الثورة على مطامع أشور في مصر، ثم خسر الأشوريين أرض عيلام قبل موت أشور بانيبال… وبهذا كانت عجلة العناية تدور ضد أشور. ومن ألغاز التاريخ الغامضة أن تسقط أشور التي بلغت قمة مجدها في سنة ٦٦٣، بعد هذا التاريخ بواحد وخمسين سنة، ولا تقوم لها قائمة مرة أخرى. لقد زحف عليها سيكزارس ولكنه لم يستطع أن يخترق أسوارها، فرجع عنها إلى غيرها من مدن السهل مثل تاريس ونمرود ودمرهما تماماً.
أن هناك شيئاً غامضاً يحيط بسقوط نينوى بهذه الصورة، وهي في أوج قوتها. فلم يكن في قدرة أي قوة عسكرية أن تفعل بها ما تنبأ به ناحوم، مهما أُتيح لهذه القوة من أسلحة وحنكة حربية، لم يكن في مقدور أي قوة أن تخترق أسوار نينوى بسهولة، تلك الأسوار الشاهقة وما عليها من أبراج قوية يتحصن داخلها جيش قوي، علاوة على الخندق الذي بلغ اتساعه ١٥٠ قدماً. لا يمكن أن يسقط كل هذا في خلال ثلاثة شهور من الحصار. وفي نهاية حكم أشور بانيبال اتفق الماديون مع القبائل المجاورة وهاجموا نينوى فسقطت عام ٦١٢ ق.م بعد حصار ثلاثة شهور فقط. وهذه فترة حصار قصيرة جداً لو عرفنا أن بسماتيك حاصر أشدود تسعة وعشرين عاماً، وهي مدينة أصغر وأقل تحصيناً من نينوى. وكان النبي ناحوم قد تنبأ أنها ستسقط بسهولة، كما تسقط ثمرات التين من الشجرة (ناحوم ٣: ١٢).
ويقول ناحوم ٢: ٦ إن هلاك نينوى سيكون بفيضان أنهار. وقد أظهرت الحفريات أن هذا هو ما جرى لنينوى، فقط أسقط فيضان النهر الأسوار، فاستطاع الماديون والكلدانيون أن يستولوا على المدينة بسهولة. وقد كتب ديودور الصقلي وصفاً لسقوط نينوى، قال فيه أن الأعداء كانوا يحيطون بنينوى، ولكن الملك لم يهتم لثقته بانتصاراته السابقة، فأقام الحفلات لجنوده وسكروا. وعرف أرباسس قائد العدو هذه الحقائق من الفارين من المدينة، فهاجمها ليلاً بنجاح عظيم. وكانت خسائر الأشوريين هائلة بسبب السّكر وعدم النظام. وحاول القائد الأشوري جمع الشمل، وكانت ثمة نبوة عند أهل نينوى: «لا يستطيع عدو أن يأخذ نينوى أبداً إلا إذا أصبح النهر عدواً للمدينة أولاً». وفعلاً لم يستطع العدو أن يخترق الأسوار لما كانت المئونة متوفرة بالمدينة. وظلت المدينة تقاوم ثلاث سنوات، ولكن المطر نزل بشدة ففاض النهر، وتهدمت أجزاء من الأسوار المنيعة، فخاف الملك ظاناً أن النبوة قد تحققت، فجمع ممتلكاته ونساءه داخل قصره وأغلقه ثم أحرقه. واقتحم الأعداء المدينة من الجزء الذي تحطم من السور ودخلوها عنوة، وتُّوج أرباسس – قائد الجيش المهاجم – ملكاً عليها.
وانهارت نينوى، حتى أن العلماء الذين أرادوا استكشاف مكانها، ساروا فوقه ذهاباً وجيئه دون أن يعرفوا أنهم فوق المكان الذي يفتشون عليه! لقد تحققت نبوة ناحوم ٣: ١١!
ولقد ظل مكان نينوى مجهولاً حتى اكتشفه السير أوستن لايارد في القرن التاسع عشر، وهو رحالة بريطاني وعالم آثار. ولقد كان كل ما لدينا من معلومات عن نينوى قبل ذلك مستمداً من الكتاب المقدس، حتى قال الشكّاكون إنه لم يكن لأشور ولا نينوى ولا بابل وجود! ولكن الحفريات – التي وصلت إلى عمق ٣٠-٤٥ قدماً – كشفت موقع نينوى وأظهرت صحة التاريخ الكتابي، وفوق ذلك أظهرت صحة النبوة الكتابية! (٣٨).
ويقدم العالم ملاوان وصفاً لنينوى نقول فيه: «الحالة التي وجدنا فيها حجرة العرش في قلعة شلمنأصر تُظهر الكارثة التي حلّت بها، فطلاء الحوائط محترق ومسّور بالهباب الذي تخلل طوب الحوائط. وقد أدت الحرارة الشديدة إلى ميل الحائط الجنوبي للداخل في وضع خطير، ودُفنت الغرفة نفسها تحت أكوام الأنقاض التي ارتفعت متراً ونصف، مغطاة بالرماد والفحم والقطع الأثرية. ووجدت مئات القطع العاجية محترقة، وفي القصر وجدنا الأنقاض مختلطة بأطعمة مصنوعة من الحبوب مثل الشعير والقمح. ولقد رأيت مدناً كثيرة محترقة، ولكني لم أر مثل هذا الحريق الإنتقامي الذي لا يزال رماده باقياً. ولقد ظلّت أطلال القصر باقية كما هي تحت الأنقاض حتى كشفنا عنها سنة ١٩٥٨» (٥٥).
لقد ذكر ناحوم ثلاث مرات أن نينوى ستُخرب بالماء، في ١: ٨، ٢: ٦، ٢: ٨ – وليست هذه الكلمات شعرية أو تصويرية، فهو يصف «بطوفان عابر يصنع هلاكاً تاماً» و «أبواب الأنهار انفتحت» و «نينوى كبركة ماء». وقد حدث هذا فعلاً، إذ فاض النهر فانهارت بعض دفاعات نينوى، وسهل على الأعداء اقتحامها وتدميرها.
ولقد كان سقوط نينوى في شهر آب (أغسطس)، وينزل المطر عادة في شهر مارس (آذار)، وتعلو مياه النهر في شهري أبريل ومايو (نيسان وأيار)، فيكون سقوط الأسوار في شهر آب (أغسطس) معقولاً.
ولقد هاجم البعض هذه الفكرة بحجة أن نهر دجلة لا يمرّ بنينوى، كما هو الحال اليوم. ولكن معظم العلماء اليوم يقولون أن دجلة كان يمر بغرب نينوى، وذلك من الحفريات التي جرت في المنطقة.
وهاجم البعض الفكرة مرة أخرى، وقالوا أن النهر لا يمكن أن يهدم السدود ويسقط سور المدينة. ولكن نهر الدجلة قادر على ذلك، علاوة على أن هناك احتمالين آخرين:
الإحتمال الأول هو أن هناك نهراً ثانياً كان يمكن أن يسبب الفيضان، وهو نهر الخسر. وكان الأشوريون قد أقاموا سداً للتحكم في المياه، وأقاموا بوابة يمرّ منها الماء للمدينة بحساب. ويمكن للأعداء أن يحولوا ماء نهر الخسر بعيداً عن المدينة، فيقطعوا عنها ماء الشرب (ماء الدجلة لا يُشرب) ثم يطلقون الماء الموجود خلف السد ليغرقوا المدينة! ومجرى نهر الخسر يتسع قرب نينوى حتى يشبه «بركة الماء» (ناحوم ٢: ٨).
وهناك نهر ثالث هو «الزاب» أو «تبلتو» (تبلتو كلمة أشورية معناها يمزق أو يجرف) وهو يمكن أن يفيض فيمزق نينوى ويحملها معه!
ومن هذا نرى بوضوح:
- ستُخرب نينوى وهي مخمورة، وربما كان سقوطها راجعاً لتفكير أهلها في أن بلدهم لا تُهزم، فسكروا.
- أُخربت نينوى بطوفان ماء.
- احترقت نينوى وصارت خربة تماماً، لم تبن.
- صارت نينوى خافية.
كانت مدينة بابل عاصمة المملكة البابلية للعالم في وقتها، ومركزاً للتجارة والثقافة والعلم. وكانت أيضاً موضوع بعض النبوات.
إشعياء ١٣: (٧٨٣-٧٠٤ ق.م).
١٩ «وَتَصِيرُ بَابِلُ بَهَاءُ ٱلْمَمَالِكِ وَزِينَةُ فَخْرِ ٱلْكِلْدَانِيِّينَ كَتَقْلِيبِ ٱللّٰهِ سَدُومَ وَعَمُورَةَ».
٢٠ «لاَ تُعْمَرُ إِلَى ٱلأَبَدِ، وَلاَ تُسْكَنُ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ، وَلاَ يُخَيِّمُ هُنَاكَ أَعْرَابِيٌّ، وَلاَ يُرْبِضُ هُنَاكَ رُعَاةٌ».
٢١ «بَلْ تَرْبُضُ هُنَاكَ وُحُوشُ ٱلْقَفْرِ، وَيَمْلأُ ٱلْبُومُ بُيُوتَهُمْ، وَتَسْكُنُ هُنَاكَ بَنَاتُ ٱلنَّعَامِ، وَتَرْقُصُ هُنَاكَ مَعْزُ ٱلْوَحْشِ».
٢٢ «وَتَصِيحُ بَنَاتُ آوَى فِي قُصُورِهِمْ، وَٱلذِّئَابُ فِي هَيَاكِلِ ٱلتَّنَعُّمِ، وَوَقْتُهَا قَرِيبُ ٱلْمَجِيءِ وَأَيَّامُهَا لاَ تَطُولُ».
إشعياء ١٤:
٢٣ «وَأَجْعَلُهَا مِيرَاثاً لِلْقُنْفُذِ، وَآجَامَ مِيَاهٍ، وَأُكَنِّسُهَا بِمِكْنَسَةِ ٱلْهَلاَكِ، يَقُولُ رَبُّ ٱلْجُنُودِ».
أرميا ٥١: (٦٢٦ – ٥٨٦ ق.م).
٢٦ «فَلاَ يَأْخُذُونَ مِنْكَ حَجَراً لِزَاوِيَةٍ وَلاَ حَجَراً لأُسُسٍ، بَلْ تَكُونُ خَرَاباً إِلَى ٱلأَبَدِ يَقُولُ ٱلرَّبُّ».
٤٣ «صَارَتْ مُدُنُهَا خَرَاباً، أَرْضاً نَاشِفَةً وَقَفْراً، أَرْضاً لاَ يَسْكُنُ فِيهَا إِنْسَانٌ وَلاَ يَعْبُرُ فِيهَا ٱبْنُ آدَمَ».
في هذه النبوات نرى الحقائق التالية:
- تصير بابل خراباً مثل سدوم وعمورة (إشعياء ١٣: ١٩).
- لا تُسكَن أبداً (إرميا ٥١: ٢٦، إشعياء ١٣: ٢٠).
- لا يقيم فيها الأعراب خيامهم (إشعياء ١٣: ٢٠).
- لا يرعى هناك رعاة (إشعياء ١٣: ٢٠).
- تسكنها الحيوانات البرية (إشعياء ١٣: ٢١).
- لا تؤخذ حجارتها لمباني أخرى (إرميا ٥١: ٢٦).
- أرضها لا يعبر فيها إنسان (إرميا ٥١: ٤٣).
- تصبح برك مياه (إشعياء ١٤: ٢٣).
تقول دائرة المعارف البريطانية إنه «حتى القرن التاسع عشر كانت كل المعلومات التي عندنا عن بابل وأشور مستقاة من الكتاب المقدس، ومن عدد قليل من كتاب اليونان. ولم تتضح لنا تواريخ بابل وأشور إلا بعد اكتشاف الآثار والكتابات القديمة لهما، وفك رموز الخط المسماري الذي كانوا يكتبون به وقتها» (٣٧).
كانت بابل مدينة غنية قبل أن تهزم غريمتها نينوى، مشهورة بتجارتها مع كل دول العالم القديم، بسبب موقعها على مجرى مائي صالح للملاحة، يبعد – في جزء منه – مائة ميل عن البحر الأبيض المتوسط، ويصب في خليج متصل بالمحيط الهندي، وكان يوازيه نهر دجلة، الذي يكاد يضارعه في الأهمية «والذي كان يمرّ بربوع أشور الخصيبة يحمل خيراتها إلى بابل. لقد كانت بابل حلقة الوصل التجاري بين الشرق والغرب» (٥٦).
وكانت بابل مشهورة بمبانيها، ولقد أظهرت الحفريات الكثير من النقوش التي تبيّن نشاط نبوخذ نصر العظيم في البناء. وهناك ستة أعمدة منقوشة – هي من بقايا قصور بابل، وموجودة حالياً في لندن – تُظهر تعدد المباني التي أقامها لتجميل بابل (٤٠)،. وقد بدأ نبوبولاسار، وتبعه إبنه نبوخذ نصر في أواخر القرن السابع وأوائل القرن السادس ق.م ببناء بابل حيث بلغت أوج شهرتها!
كان نهر الفرات يقسم المدينة قسمين، وقد بقي أكثر الآثار في الجانب الشرقي من النهر. ولعل هذا يرجع إلى أن النهر يغيّر مجراه، مخلِّفاً وراءه بعض المستنقعات إلى جهة الغرب. وقد أقامت سميراميس جسوراً لكبح جماح النهر، كما أن ملكة أخرى استغلَّت ذلك في عمل بحيرة عظيمة خارج الأسوار. كان الجزء الغربي من المدينة محاطاً بمستنقعات كثيرة تغذّيها مياه نهر الفرات، مما منع وصول الأعداء إليها من هذا الجانب (٥٦).
وكانت مساحة مدينة بابل ١٩٦ ميلاً مربعاً، أي أن كل ضلع من جوانبها ١٤ ميلاً، ومحيطها ٥٦ ميلاً، محاطة بخندق عرضه عشرة أمتار، وحولها سوران، الخارجي ارتفاعه أكثر من مائة متر (ارتفاع ثلاثين طابقاً) وعرضه نحو ثلاثين متراً (يتسع لثماني مركبات حربية متجاورة) وبه مائة بوابة من النحاس، و ٢٥٠ برج مراقبة، إرتفاع كل منها أكثر من ثلاثين متراً فوق السور.
أما سقوط بابل العظيمة فيصفه كل من هيرودوت وزينوفون بالقول: «إن الفرس حاصروها، ولكنهم وجدوا استحالة كسر أسوارها، أو اختراق أبوابها. وعرف القائد الفارسي أن نهر الفرات يجري تحت هذه الأسوار الضخمة باتساع كافٍ لمرور جيش. وكان رجلان من بابل قد هجرا مدينتهما وانضما إلى جيش فارس، فطلب كورش الفارسي من جيشه أن يحفر خنادق كبيرة لتحويل مجرى النهر، وطلب من الخائنَينْ وضع خطط الهجوم من داخل الأسوار. وكان البابليون يضحكون على أعدائهم «العاجزين» خارج الأسوار، فأقاموا حفلاً لآلهتهم شكراً لانتصارهم على فارس! (كما هو مسجل في سفر دانيال أصحاح ٨) دون أن يتنبهوا إلى أن كورش الفارسي قد حّوَل مجرى نهر الفرات من تحت أسوار بابل، وأنه يسير في مجرى النهر الجاف ليدخل مدينتهم. ولقد سقطت بابل بغير حرب بفضل الخائنَينْ وسُكْر أهل بابل! إقرأ إشعياء ٢١: ٥، ٤٤: ٢٧، إرميا ٥١: ٣٦. عن موت بيلشاصر إقرأ إشعياء ١٤: ١٨-٢٠، إرميا ٥١: ٥٧.
ويصف مرل أنجر سقوط بابل الهادئ فيقول: «في ١٣ أكتوبر (ت ١) ٥٣٩ ق.م سقطت بابل في يد كورش الفارسي، ومنذ ذلك الوقت بدأ اضمحلال المدينة، فنهبها زركسيس. وحاول الإسكندر الأكبر إعادة بناء هيكلها العظيم، لكن النفقات الباهظة جعلته يتقاعس. وفي عهد خلفاء الإِسكندر اضمحلت المدينة بسرعة حتى أصبحت صحراء» (٣٨).
والذي حدث أن خلفاء الإسكندر اختلفوا وتصارعوا، وجرت المعارك على أرض بابل ونهبتها الجيوش المتحاربة فأُخربت، وأخيراً صارت من نصيب السلوقيين. وكان إعادة بناء المدينة مكلّفاً جداً حتى قرر السلوقيون بناء مدينة جديدة، دعوها سلوقية، على بعد أربعين ميلاً شمال بابل، على نهر دجلة، فانتقلت المؤسسات والتجارة تباعاً إلى المدينة الجديدة فاضمحلت بابل شيئاً فشيئاً حتى ماتت. وقد زار سترابو بابل في أثناء حكم أغسطس (٢٧ ق.م – ١٤ م) وقال: «لقد صارت المدينة العظيمة صحراء». وفي عام ١١٦ زار تراجان بابل في أثناء حملته على البارثيانيين ووجد المدينة ركاماً فوق ركام!
وفي عام ٣٦٣ م حارب الإمبراطور جوليان الساسانيين حكام فارس، وأخرب أسوار بابل التي كان الساسانيون قد أعادوا بناءها. واليوم، على مسافة ٤٤ ميلاً جنوبي بغداد تجد الحطام المغطاة بالرمال، التي كانت يوماً «بابل العظيمة»! (٥٧).
وقد قال أحد علماء الآثار: «شتان ما بين عظمة الحضارة الماضية والخراب الحالي (نبوة رقم ١) الذي تجول فيه الحيوانات المتوحّشة من بنات آوى والضباع والذئاب وأحياناً الأسود» (نبوة ٥) (٥٠). وقارن رجال الحفريات بين أسوار المدن القديمة وأسوار بابل، ففي مدن أخرى يتراوح سُمك الأسوار بين ثلاثة وسبعة أمتار، أما في حالة بابل فسُمك الأسوار بين ١٧ و ٢٢ متراً! ويبلغ ارتفاع الأتربة التي تغطي حطام الأسوار ما بين مترين وستة أمتار، أما في حالة بابل فهو من ١٢ إلى ٢٤ متراً! (٥٧).
أما هيكل مردوخ على الفرات فكان على رجال الحفريات أن يزيحوا ملايين الأقدام المكعبة من الأنقاض قبل الكشف عن جزء منه. وكان نبوخذ نصر قد بناه ٥٠٠ متراً ضرب ٦٠٠ متراً. ومقابل الهيكل كان «الزيجورات» برج هيكل مردوخ. ويبلغ طول الهيكل ستة ملاعب كرة قدم، ويبلغ عرضه طول خمسة ملاعب كرة قدم!
لقد أخربت بابل كما أخربت سدوم وعمورة، ولو أن ذلك لم يكن بنفس الطريقة! (إشعياء ١٣: ١٩) لم تعد هناك خيمة أعرابي ولا مكان رعي. إن موقع بابل صحراء جرداء فيها يصرخ البوم، فتُرجع الذئاب صدى صرخاته! لقد حدث حرفياً أن بنات آوى تصيح في قصورهم، والذئاب تعوي في هياكلهم وينعق البوم في خرائبها! (٥٦) ولعل سبب هَجْر الناس للمدينة كثرة الخرافات بصددها، كما أن نوعية التربة تجعل الزراعة مستحيلة فلا توجد مراع (٥٦). وقد ذكر ستونر أن سبب عدم إعادة استعمال أحجار بابل في البناء مرة أخرى أنها كانت ضخمة، تكلّف الكثير في نقلها (٤٢) لقد تنبأ إرميا (٥١: ٢٦) أن أحجار بابل لا تؤخذ، وقد حدث هذا. ولكن الطوب أخذ، وأعيد بناؤه في أماكن أخرى! فيالصدق النبوة!
ولقد تحققت نبوة إرميا (٥١: ٤٣) أن لا يعبر فيها إنسان. ومع أن السياح يزورون كل المدن القديمة، إلا أن بابل قلما يزورها أحد (٤٢). وتوضح دائرة المعارف البريطانية كيف أن بابل صارت برك مياه، إذ أن معظم المدينة يقع فعلاً تحت مستوى سطح البحر (٣٧). إن الأنهار التي أُهملت أغرقت أرضاً كثيرة (أنظر إشعياء ٢١: ١) (٥٦).
لقد تحققت النبوات الثماني كلها. لاحظ الفرق بين النبوات عن بابل وتلك التي درسناها عن مصر. بابل انتهت، لكن مصر استمرت كدولة، ولكن ليس في عظمتها القديمة (٥١) تماماً كما ذكرت النبوات!!. ولم تكن بابل مدينة تجارة وحسب، بل مدينة دين أيضاً، كان بها ٥٣ معبداً لآلهة مختلفة، ٥٥ مكاناً لعبادة مردوخ، ٣٠٠ مكان عبادة لآلهة أخرى أرضية، ٦٠٠ سماوية، ١٨٠ مذبحاً لعشتاروث، ١٨٠ للإله نرجل وهدد، ١٢ مذبحاً لآلهة أخرى. ولقد كانت هناك مراكز عالمية للعبادة في العالم القديم مثل ممفيس وطيبة وبابل ونينوى وأورشليم، ولم يبق مركز من هذه التي دعت لعبادة وثنية، إلا أورشليم التي دعت لعبادة الإله الواحد.
ويقول بيتر ستونر إن احتمالات تحقيق النبوات السبع الأولى هي فرصة واحدة من خمسة بلايين فرصة هي: (١) ١ ضرب ١٠ (أنها تُخرب)، (٢) ١ ضرب ١٠٠ (أنها لا تُسكن أبداً)، (٣) ١ ضرب ٢٠٠ (الأعراب لا يقيمون فيها خيامهم)، (٤) ١ ضرب ٤ (أن الرعاة لا يرعون فيها)، (٥) ١ ضرب ٥ (تسكنها الوحوش)، (٦) ١ ضرب ١٠٠ (أحجارها لا تؤخذ لمباني أخرى)، (٧) ١ ضرب ١٠ (أرضها لا يعبر فيها إنسان). وهذا يعني أن هناك فرصة واحدة من خمسة آلاف مليون فرصة، أن هذه النبوات السبع عن بابل تتحقق (٤٢).
ونسوق هنا ملاحظتين بخصوص النبوات عن نينوى وبابل، أولاهما عن أساليب الدفاع: لم يحدث أن وجدت وسيلة حربية للتغلب على الأسوار الضخمة إلا بعد الحرب العالمية الأولى، بعد اختراع الطائرات والمدفعية الحديثة! ولكن لا توجد أسوار سميكة أو عالية، ولا توجد خنادق عميقة تقدر أن تمنع عقاب الله. لا يستطيع البشر أن يتجاهلوا الله محتمين خلف سواتر مادية أو عقلية.
والملاحظة الثانية هي عن احتمال سقوط مدينتين. لقد كانت هناك نواحي شَبَه بين نينوى وبابل، كما كانت هناك نواحي اختلاف، كأي مدينتين في العالم. فلو سألنا أحداً اليوم: هل تسقط نيويورك أو لوس أنجلوس؟ لما عرف، أو لقال إنهما لن تسقطا، أو لاختار إحداهما فقط! لكن بابل ونينوى سقطتا، ولم يسكنهما أحد ذلك الوقت!!
بابل | نينوى |
١٤ ميل مربع | عرض الخندق ٥٠ متراً |
خنادق تحيط بها أسوار مزدوجةً | إرتفاع برج الحراسة ٢٠ طابقاً |
إرتفاع السور ٣٠ طابقاً | إرتفاع السور ١٠ طوابق |
وبعرض ٣٠ متراً | سمكه يكفي مرور ست سيارات |
مائة بوابة نحاسية | أو ثلاث مركبات حربية معاً |
أرض كافية للزراعة داخل الأسوار |
من هذا نرى
نقدم هنا بعض ما كتبه أحد رجال الحفريات لزوجته في أثناء قيامه بحفرياته في قيش، على بعد ثمانية أميال شرقي بابل، يسجّل إنطباعاته الشخصية، قال: «هذا المساء قمت بزيارتي المعتادة إلى التلال التي تغطي برج الهيكل القديم.. لا يظهر البرج عالياً عندما أنظر إليه من أسفل، ولكن الحال تغيّر عندما صعدته. إن ارتفاعه أكثر من ١٥٠ متراً. ومن أعلاه ترى العين مساحات شاسعة، فيرى الناظر خرائب بابل. ويحيط بالبرج خرائب قيش التي كانت أعظم مدن ما بين النهرين! لقد استحالت شبكة الري الرائعة القديمة إلى حُفر مملوءة بالقاذورات، بعد أن غيّر نهر الفرات مجراه وهجر المكان!»
إنها مدينة ميتة! لقد زرت بومبي وأوستيا وبالاتين، لكنها ليست مدناً ميتة، إذ لا نزال نسمع فيها همهمة الحياة، وتتألق الحياة من حوله.. ولكن بابل وقيش قامتا بنصيبهما في خدمة الحضارة، ثم غابتا عن العيون!
هنا موت حقيقي. لا يوجد عمود قائم واحد للدلالة على مهارة الإنسان، لقد سقط كل شيء في التراب. أن برج الهيكل الرائع فقد شكله الأصلي. أين مدارجه السبعة؟ أين الدرج الذي كانوا يصعدون به قمته؟ أين التماثيل التي زيَّنته؟. ليس هناك إلا تلال التراب! بقايا ملايين طوب البناء، لكنها بلا شكل، وقد قام الزمن والإهمال بتكملة هدم ما بقي!! وتحت قدمي حُفر تسكن فيها بنات آوى والذئاب، التي تهجر جحورها كل ليلة بحثاً عن طعامها. لقد شعرَت الليلة بوجودي، فظلت في أوجارها. ولعلها تتطلع بعين الإستغراب إلى الذي جاء يعكّر سكون المكان. وتتغطَّى التلة بعظام بيضاء هي بقايا طعامهم. لا شيء يعكّر سكون الموت!
الآن ارتفع صوت ذئب، جاوبت عليه الكلاب في القرى القريبة، فانتهى الصمت للحظات خاطفة!!
«ولكن سؤالاً يحيرني: لماذا اختفت مثل تلك المدينة الزاهرة، عاصمة الأمبراطورية العظيمة؟ لماذا اختفت تماماً؟ هل هي تحقيق لنبوة تقول إن الذئاب ستعوي في هياكلها؟ هل كان ما عمله الناس في هذا المكان سبب هذا الخراب الذي جاء عليهم؟ أم هو مصير كل حضارة بشرية أن تنهار عندما تبلغ أوج عظمتها. ولعل ما نعمله نحن الآن من محاولة التنقيب عن أسرار الماضي، هو ما ستفعله أجيال قادمة تنقيباً عن تاريخنا وحضارتنا!!».
نقرأ في العهد الجديد عن أربعة مدن كانت على شواطئ بحر الجليل هي كفر ناحوم وكورزين وبيت صيدا وطبرية، اندثرت ثلاث منها، وبقيت الرابعة (١٤). وهاك النبوة عن الثلاث مدن المندثرة:
متى ١١ (٥٠ م)
٢٠ «حِينَئِذٍ ٱبْتَدَأَ (المسيح) يُوَبِّخُ ٱلْمُدُنَ ٱلَّتِي صُنِعَتْ فِيهَا أَكْثَرُ قُّوَاتِهِ لأَنَّهَا لَمْ تَتُب»:
٢١ «وَيْلٌ لَكِ يَا كُورَزِينُ! وَيْلٌ لَكِ يَا بَيْتَ صَيْدَا! لأَنَّهُ لَوْ صُنِعَتْ فِي صُورَ وَصَيْدَاءَ ٱلْقُّوَاتُ ٱلْمَصْنُوعَةُ فِيكُمَا، لَتَابَتَا قَدِيماً فِي ٱلْمُسُوحِ وَٱلرَّمَادِ».
٢٢ «وَلٰكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ صُورَ وَصَيْدَاءَ تَكُونُ لَهُمَا حَالَةٌ أَكْثَرُ ٱحْتِمَالاً يَوْمَ ٱلدِّينِ مِمَّا لَكُمَا».
٢٣ «وَأَنْتِ يَا كَفْرَنَاحُومَ ٱلْمُرْتَفِعَةَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ، سَتُهْبَطِينَ إِلَى ٱلْهَاوِيَةِ. لأَنَّهُ لَوْ صُنِعَتْ فِي سَدُومَ ٱلْقُّوَاتُ ٱلْمَصْنُوعَةُ فِيكِ لَبَقِيَتْ إِلَى ٱلْيَوْمِ.
٢٤ «وَلٰكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ أَرْضَ سَدُومَ تَكُونُ لَهَا حَالَةٌ أَكْثَرُ ٱحْتِمَالاً يَوْمَ ٱلدِّينِ مِمَّا لَكِ».
ولا توضح هذه النبوات كيفية محددة لخراب هذه المدن، ولكنها توضح الخراب الآتي عليها كلها. ويقدم لنا التاريخ قصة خاصة لهذه المدن الثلاث. تقول دائرة المعارف البريطانية عن كفر ناحوم إنها «مدينة قديمة على الشاطئ الشمالي الغربي لبحر الجليل. يقولون إن موقعها اليوم هو تل حوم. ولم تمنع شهرتها قديماً من اختفاء اسمها ومن الجدل حول موقعها» (٣٧). ويقول جورج ديفس: إن زلزالاً دمرَّ كفر ناحوم عام ٤٠٠ م وهلكت كورزين وبيت صيدا معها في الوقت ذاته. (٥٠). ويمضي ديفس ليقول: إن موقع بيت صيدا على بحر الجليل كان جميلاً جداً حتى قرر الملك الوليد الأول عام ٧٠٠ م أن يبني قصراً شتوياً على موقع خرائبها، ولكنه مات قبل إكمال القصر. ومرت القرون واندثر القصر، ولا يبقى اليوم هناك إلا بعض أحجار الأساس وبعض البلاط والموزاييك في الأرضيات. وقد غطى رجال الآثار هذا البلاط بالرمل حتى لا يسرقه اللصوص ويضيع كل أثر لمكان القصر (٥٠).
ويقول ديفس في وصف كفر ناحوم أن المجمع الموجود فيها ظل قروناً طويلة مدفوناً تحت التراب مثل بقية المدينة الخربة. وقد حاول أحدهم أن ينقب عن المجمع بين الخرائب، فأعاد إقامة بعض حوائطه، كما أعاد إقامة بعض أعمدته في مكانها. ولكن ما لم يتوقعه حدث، فقد مات مهندس المشروع فجأة، كما مات قبله الملك الوليد قبل أن يكمل قصره في بيت صيدا (٥٠).
ويذكر مرت مرل أنجر في قاموسه أن الخراب المعلَن على كفر ناحوم وزميلتيها غير المؤمنتين (متى ١١: ٢٣) قد تحقق تماماً، فإن تل حوم هو مجموعة من الخرائب مثل بيت صيدا وكورزين. وقد وجد بكفر ناحوم مجمع اكتشفوه بعد التنقيب، يرجع للقرن الثالث الميلادي (٣٨).
ويعلق ديفس على طبرية فيقول إن المسيح لم يقل كلمة واحدة ضد هذه المدينة. وقد أُخربت عدة مرات. ولكن أُعيد بناؤها في كل مرة. ويقول: «في كل مرة زرنا فيها هذه المنطقة انذهلنا من تحقيق نبوة المسيح. لقد أُخربت المدن الثلاث. وبقيت طبرية قائمة طيلة تسعة عشر قرناً» (٥٠).
إرميا ٣١: (٦٢٦ – ٥٨٦ ق.م).
٣٨ «هَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُولُ ٱلرَّبُّ وَتُبْنَى ٱلْمَدِينَةُ لِلرَّبِّ مِنْ بُرْجِ حَنَنْئِيلَ إِلَى بَابِ ٱلّزَاوِيَةِ».
٣٩ «وَيَخْرُجُ بَعْدُ خَيْطُ ٱلْقِيَاسِ مُقَابِلَهُ عَلَى أَكَمَةِ جَارِبَ وَيَسْتَدِيرُ إِلَى جَوْعَةَ».
٤٠ «وَيَكُونُ كُلُّ وَادِي ٱلْجُثَثِ وَٱلرَّمَادِ وَكُلُّ ٱلْحُقُولِ إِلَى وَادِي قَدْرُونَ إِلَى زَاوِيَةِ بَابِ ٱلْخَيْلِ شَرْقاً قُدْساً لِلرَّبِّ. لاَ تُقْلَعُ وَلاَ تُهْدَمُ إِلَى ٱلأَبَد».
تبدو هذه النبوة غامضة حتى ترى الخريطة المرفقة، لأورشليم. وما نقدمه هنا اقتباس من كتاب جورج ديفس (مرجع رقم ٤٨).
يقدم إرميا علامات واضحة لنمّو المدينة، وقد بقيت هذه العلامات قروناً طويلة إلى أن لاشاها اتّساع المدينة، الذي هو تحقيقٌ للنبوة. وقد قدَّم النبي زكريا نبوة مشابهة، قال: «وتتحّوَل الأرض كلُّها كالعربة، من جَبْع إلى رَمُّون جنوب أورشليم. وترتفع وتُعَمر في مكانها، من باب بنيامين إلى مكان الباب الأول إلى باب الزاوية، ومن برج حننئيل إلى معاصر الملك» (زكريا ١٤: ١٠).
وسنحاول هنا أن نعطي الأسماء الحديثة، مع الإشارة إلى الإسم القديم. كانت أُورشليم كما يصفها إرميا إلى جنوب المدينة الحديثة. وتُظهر الخرائط الحديثة أن المدينة قد امتدت شمالاً.
الركن الشمالي الغربي في نواحي جامع عمر هو موضع برج حننئيل. أما باب يافا الحالي فهو موقع باب الزاوية. أما المباني بين هذين الموقعين فقد بُنيت قبل جيلنا الحاضر، وبعد زمن إرميا. ولننتقل إلى أكمة جَارِب إلى الشمال الشرقي من باب الزاوية حيث توجد المساكن الروسية. وقد حدث الإتساع طبقاً للنبوة. أما ملجأ شنلر، وهو مدرسة ألمانية، نهر في موقع تل جَوْعة، وهي نهاية اتساع المدينة للشمال (موقع ٤ على الخريطة) حسب النبوة، ولو أن المدينة اتَّسعت ضواحيها في هذا الإتجاه بسبب وجود طريق يافا (موقع ٣ على الخريطة).
أما وادي الجثث فقد كان مقبرة من قبل (موقع ٥ على الخريطة)، وهو المقصود في نبوة زكريا، حيث أن مَعَاصر الملك تقع إلى شمال هذا الوادي. وفي عام ١٩٢٥ امتدَّ سكن اليهود اليمنيين إلى هذا القسم. أما تل الرماد (جنوب شرق جَوْعة) الذي يتكلم عنه إرميا، فقد اختفى بسبب المباني بين عامي ١٩٠٠ و ١٩٣٠. وكان رماداً فعلاً ناتجاً عن ذبائح الهيكل. ولما كان الرماد نافعاً لإِضافته لمواد عمل الطوب، فقد اختفى تدريجياً. وهكذا تم الإتساع والسكن فيه (موقع ٦ على الخريطة).
أما المواقع ٧، ٨، ٩ على الخريطة فقد كانت حقول وادي قدرون، وقد امتد الإتساع إليها منذ عام ١٩٣١ وبعده. وقد اختفى باب الخيل شرق سور المدينة القديمة بسبب امتداد العمران، ولكنه غير بعيد من باب الذهب.
ولم يمتد اتساع المدينة عشوائياً، ولكنه تبع خط نبوة إرميا! إن إرميا أوضح تدرُّج الإتساع، وهذا ما حدث فعلاً. لقد لخَّص إرميا الإتساع الذي جرى من ١٨٨٠ إلى ١٩٣٥ حين قال: «قدساً للرب. لا تُقلع ولا تُهدم للأبد» (إرميا ٣١: ٤٠). لقد بدأ اتساع المدينة بالقسمين ١، ٢ من الخريطة، وهذا داخل أسوار سليمان. ومنذ خمسين سنة امتدت أورشليم إلى ما خارج أسوارها نحو القسم (٣) حتى شملت الأجزاء التسعة بنفس الترتيب المذكور في نبوة إرميا.
ويقول بيتر ستونر: «لمدينة أورشليم ستة أركان، وكان يمكن أن الإتساع يبدأ من أيٍّ من هذه الأركان، ويمتد إلى أيّ اتجاه كان! وفرصة تحقيق نبوة إرميا هي فرصة واحدة من ٨ ضرب ١٠١٠ من الفرص، هذا لو أن نبوة إرميا كانت بحكمة إنسانية!» (٤٢). إنها فرصة واحدة من ٨٠ ألف مليون فرصة!
اللاويين ٢٦: (١٥٢٠ – ١٤٠٠ ق.م).
٣١ «أُصَيِّرُ مُدُنَكُمْ خَرِبَةً وَمَقَادِسَكُمْ مُوحِشَةً، وَلاَ أَشْتَمُّ رَائِحَةَ سُرُورِكُمْ».
٣٢ «وَأُوحِشُ ٱلأَرْضَ فَيَسْتَوْحِشُ مِنْهَا أَعْدَاؤُكُمُ ٱلسَّاكِنُونَ فِيهَا».
٣٣ «وَأُذَرِّيكُمْ بَيْنَ ٱلأُمَمِ، وَأُجَرِّدُ وَرَاءَكُمُ ٱلسَّيْفَ فَتَصِيرُ أَرْضُكُمْ مُوحِشَةً، وَمُدُنُكُمْ تَصِيرُ خَرِبَةً».
حزقيال ٣٦: (٥٩٢ – ٥٧٠ ق.م).
٣٣ «هَكَذَا قَالَ ٱلسَّيِّدُ ٱلرَّبُّ: فِي يَوْمِ تَطْهِيرِي إِيَّاكُمْ مِنْ كُلِّ آثَامِكُمْ أُسْكِنُكُمْ فِي ٱلْمُدُنِ، فَتُبْنَى ٱلْخِرَبُ».
٣٤ «وَتُفْلَحُ ٱلأَرْضُ ٱلْخَرِبَةُ عِوَضاً عَنْ كَوْنِهَا خَرِبَةً أَمَامَ عَيْنَيْ كُلِّ عَابِرٍ».
٣٥ «فَيَقُولُونَ: هَذِهِ ٱلأَرْضُ ٱلْخَرِبَةُ صَارَتْ كَجَنَّةِ عَدْنٍ، وَٱلْمُدُنُ ٱلْخَرِبَةُ وَٱلْمُقْفِرَةُ وَٱلْمُنْهَدِمَةُ مُحَصَّنَةً مَعْمُورَةً».
في هاتين النبوتين نرى الحقائق التالية:
- تصير مدن فلسطين خربة (لاويين ٢٦: ٣١،٣٣).
- ستكون مقادسها موحشة (لاويين ٢٦: ٣١).
- تُخرب البلاد (لاويين ٢٦: ٣٢، ٣٣).
- يسكنها الأعداء (لاويين ٢٦: ٣٣).
- يتشتت سكانها (لاويين ٢٦: ٣٣).
- يلقى اليهود الإضطهاد (لاويين ٢٦: ٣٣).
- يعود السكان وتبنى المدن وتُزرع الأرض (حزقيال ٣٦: ٣٣ – ٣٥).
درس جون أُركهارت تاريخ فلسطين بدقَّة، ودرس النبوات عنها. ولقد حذر الله اليهود منذ دخلوا أرض الميعاد أنهم لو قاوموا خطته لحلَّ بهم الخراب (لاويين ٢٦: ٣١ – ٣٣). وقد تحقق هذا عام ٧٠ م عندما دمر الرومان البلاد وأهلكوا أهلها وأحرقوا الهيكل، وعلَّقوا صورة الخنزير على مدخل بيت لحم. ومنذ ذلك الوقت لم يقدم اليهود ذبيحة ليهوه! (النبوة ٢). على أن السكان اليهود لم يُطرَدوا من فلسطين تماماً إلا سنة ١٣٥ م عندما صادر هادريان كل الأراضي وباعها لغير اليهود. وتغيَّر السكان بعد ذلك، لكنهم كانوا على الدوام من غير اليهود، معادين لليهود. (تحققت نبوتا ٤ و ٥).
على أن ترك اليهود للبلاد لم يتركها خربة، فقد عمرها الملاَّك الجدد. وعندما اعتلى الإمبراطور قسطنطين العرش بُنيت كنائس مسيحية على المواقع التي جاء ذكرها في الإنجيل، وسكن البلاد كثيرون حتى تعطل الغزو الفارسي بقيادة كسرى في القرن السابع، وحتى استغرق الحصار العربي لأورشليم أربعة شهور، كما أن أورشليم قاومت الغزاة الصليبيين في القرن الحادي عشر (٤٩).
ولم يجد رجال الآثار أيَّ أثر لليهود في فلسطين بعد عام ٧٠ م، ولا حتى شاهد قبر يحمل كتابة عبرية. حتى مجمع كفر ناحوم صار حطاماً تحت الأنقاض (وهكذا تحققت نبوات ١، ٢، ٥).
وقد وصف مارك تواين فلسطين عام ١٨٦٩ يقول: «لا توجد قرية واحدة على امتداد ٣٠ ميلاً من كل الإتجاهات. هناك تجمُّعات قليلة لخيام البدو، ولكن لا يوجد سكن دائم مبني. وقد يسافر الإِنسان عشرة أميال دون أن يلاقي أكثر من عشرة أشخاص!» (وهكذا تحققت نبوة ٣). وقد تحدث مارك تواين عن الجمال الرائع لتلك البلاد، وما توحيه من ذكريات خالدة، ولكنها مهجورة. ثم اقتبس تواين اللاويين ٢٦: ٣٢ – ٣٤ وقال إن كل من يزور عين الملاحة عام ١٨٦٩ لا يقدر أن ينكر أن هذه النبوة قد تحققت (٥٨).
وحتى في عام ١٩٢٧ وصف أحدهم فلسطين أنها «أرض خراب» قاحلة (٥١).
غير أن نبوة حزقيال التي قالها منذ ٢٥٠٠ سنة تحققت (النبوة رقم ٧). وكمثال نرى صحراء النقب اليوم مزروعة خصبة (١٤) ونرى مدناً كثيرة مأهولة وعامرة بالناس.
ويقول بيتر ستونر أن فرصة تحقيق هذه النبوات هي واحدة من مائتي ألف فرصة (٤٢).
أما عن نبوة «وأُجرّد ورائكم السيف» (لاويين ٢٦: ٣٣) فقد تحققت أيضاً. ففي القرن الثاني الميلادي ثار اليهود في كل من قبرص ومصر وبابل والقيروان، لكنهم مُحقوا تماماً، ومُنعوا منعاً باتاً من الإِقامة في قبرص. وكان تصرُّفهم السيء مجلبة للنار على رؤوسهم، فقد ساعدوا الفرس على احتلال أورشليم في القرن السابع الميلادي، وقتلوا الأهالي المسيحيين والأسرى الفرس المسيحيين أيضاً. ونتيجة لذلك قتل بطرس الناسك الصليبي اليهود في ألمانيا لحماية «الوطن المسيحي الأم». ولم يكن حالهم في إنجلترا أفضل، ففي مقاطعة يورك سنة ١٢٠٠ قُتل منهم نحو ١٥٠٠ يهودياً، وأُخذت ثروتهم وطُردوا من البلاد حتى حكم تشارلس الثاني. ولقد عوملوا معاملة طيبة في فرنسا، ولكن المعاملة تغيَّرت، فقُتلوا وأُلغيت الديون التي كانت لهم على الناس، كما جعلهم لويس الثامن عبيداً. وقامت ثورة ضدهم في باريس عام ١٢٣٩. وحرموا من البقاء في فرنسا ما بين أعوام ١٤٠٠ و ١٧٤٩ (٤٩)، ولاقوا في إسبانيا ما هو أسوأ من ذلك.
ولنذكر ما جاء في الكتاب: «الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله» (رومية ٣: ٢٣). ولقد دفعوا ثمن رفضهم لمجد الله!
ومن وجهة نظر الرياضيات، لو أن كلمات الأنبياء عن المستقبل كانت بحكمة بشرية، فما هي احتمالات تحقيقها؟.
يقدم العالم بيتر ستونر الأرقام الآتية:
وقد يقول قائل أن هناك متكررات كثيرة ومتشابهات في هذه النبوات. وإنني أرجو من هذا الشخص أن يُنقص العدد بحسب تقديره، وسيجد أن هناك معجزة في ما تحقَّق من نبوات، بالنسبة للإحتمالات الرياضية. وعلى هذا الشخص أن يضيف نبوات أخرى جاءت في الكتاب عن كل من هذه الأماكن، فعلى سبيل المثال عن صيدون (حزقيال ٢٨: ٢٠ – ٢٣)، عن كفر ناحوم وبيت صيدا (لوقا ١٠: ١٣ و ١٥) وعن الطريق لمصر (إشعياء ١٩: ٢٣) الخ.
وقد يعترض البعض بأن هذه النبوات كُتبت بعد حدوث ما أنبأت به، ولكن هذا لغو فارغ، لأن هذه كل النبوات تقريباً تحققت بعد الميلاد، وقد كُتبت قبل الميلاد! (نبوة واحدة فقط تحققت قبل الميلاد، وجزء من نبوتين).
هل تعلم ما معنى احتمال واحد من٥،٧٦ ضرب ١٠ اس ٥٩ إنّ حجم الشمس قدر حجم الأرض مليون مرة، ولكن ٥ ضرب ١٠اس ٥٩ من الريالات الفضية يعمل عدداً من الكرات الفضية بحجم الشمس، يبلغ ١٠اس٢٨ كرة! إنّ عدد النجوم في مجرتنا هو مائة ألف مليون نجم، بعضها بحجم الشمس. (وهناك مجرات أخرى مثل مجرتنا).
فلو أُحصي عدد نجوم مجرتنا بواقع ٢٥٠ نجماً في الدقيقة، نهاراً وليلاً، لاستغرق ذلك العدّ ٧٥٠ سنة. وتكون قد عددْتَ نجوم مجرة واحدة! ويقولون إن في الكون ٢ ترليون مجرة، في كل مجرة منها مائة ألف مليون نجمة. إن ريالاتنا الفضية ٥ ضرب ١٠اس٥٩ تصنع في كل المجرات بنفس الحجم الذي عليه النجوم فعلاً، مرات مضاعفة عددها ٢ ضرب ١٠اس ٥ من المرات!
فلو أننا وضعنا علامة على أحد هذه الريالات، وخلطناه وسط كل هذه الأعداد، وطلبنا من شخص معصوب العينين أن ينتقي الريال ذا العلامة، فكيف يتصرف؟! إنه يحتاج إلى خمس سنوات ليدور حول نجم واحد، لو أنه سافر بسرعة مائة كيلو متر في الساعة، نهاراً وليلاً! هذا يحتاج إلى ٥٠٠ بليون سنة لزيارة كل مجرة. ولو أن صاحبنا المعصوب العينين بلغ من السرعة حتى أنه يستطيع أن يفتش وسط كل الريالات الموجودة في مائة ألف مليون نجم، كل ثانية (بدلاً من ٥٠٠ بليون سنة) لاستغرق ٣ ضرب ١٠ اس ٩ سنوات لينظر إلى كل الريالات!
إن الفرصة للعثور على الريال ذي العلامة في الكون كله، تشبه الفرصة التي كانت أمام تحقيق كل هذه النبوات لو أنها كانت صادرة عن حكمة بشرية وليست من الله!!
ولكن جميع هذه النبوات قد تحققت، وهي تقول لنا إن الله هو الذي أوحى للأنبياء ليقولوا ما قالوه: «أخبروا بالآتيات فيما بعد، فنعرف أنكم آلهة» (إشعياء ٤١: ٢٣). لقد ظهرت حكمة الله العظيمة في كلمته، في الكتاب المقدس.
إن يد الله تعمل في التاريخ. لم يكن للأنبياء سلطان ليحققوا نبّوَاتهم، كما لم يتكلموا بسلطان نفوسهم. لقد قالوا أنهم أنبياء الله العليّ، والله الحي هو المسؤول عن تحقيق قضائه.