١٥ «لأَنَّهُ يَكُونُ عَظِيماً أَمَامَ ٱلرَّبِّ، وَخَمْراً وَمُسْكِراً لاَ يَشْرَبُ، وَمِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يَمْتَلِئُ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ».
(عدد ٦: ٣ وقضاة ١٣: ٤ وص ٧: ٢٣، إرميا ١: ٥ وغلاطية ١: ١٥)
لأَنَّهُ يَكُونُ عَظِيماً هذا علّة فرح الكثيرين به على ما ذُكر. والعظمة المنبإ بها هنا روحية لا تقوم بالغنى والحكمة العالمية.
وخلاصة عظمة يوحنا في الأمور الآتية:
كونه نذيراً كما سيُذكر فغلب بذلك الشهوات البشرية.
تقواه وصلاحه وأمانته لله.
كونه ممتلئاً من الروح القدس.
كونه مهيئاً الطريق أمام المسيح. ونسبة هذا العمل إلى عمل المسيح من أجل أسباب عظمته.
أَمَامَ ٱلرَّبِّ أي في عيني من «لا ينظر إلى العينين لكنه ينظر إلى القلب» (١صموئيل ١٦: ٧). فملوك الأرض وأرباب الفتوحات والفلاسفة والأغنياء عظماء أمام الناس ولكنهم أمام الله بخلاف ما كان يوحنا صغار.
خَمْراً وَمُسْكِراً لاَ يَشْرَبُ المراد بذلك الانباء بأنه يكون نذيراً (عدد ٦: ٣ و٤) أي مفرزاً لخدمة الله طول حياته. ومثله كان شمشون (قضاة ١٣: ٢ – ٥ و١٢ – ٢٣). والأرجح أن صموئيل أيضاً كان كذلك (١صموئيل ١: ١١). والمقصود بالخمر هنا ما يسكر من عصير العنب وبالمسكر الخمر وغيرها من المشروبات المختمرة المغيبة العقل سواء كانت من الحبوب كالمِزر والجعة أم من الفواكه والعسل وغير ذلك. وكانت المسكرات كلها محرمة على الكهنة في وقت ممارسة الخدمة (لاويين ١٠: ٩) وعلى النذر أي المنذورين دائماً (عدد ٦: ٣).
يَمْتَلِئُ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ أي أن الروح القدس يمنحه من أول نشأته كل المواهب العقلية والروحية التي تؤهله للقيام بواجبات وظيفته كما ينبغي. ويجب على كل مسيحي أن يرغب في مثل صفات يوحنا وفق قول الرسول «وَلاَ تَسْكَرُوا بِٱلْخَمْرِ ٱلَّذِي فِيهِ ٱلْخَلاَعَةُ، بَلِ ٱمْتَلِئُوا بِٱلرُّوحِ» (أفسس ٥: ١٨).
ونفهم مما ذكر أن قلب يوحنا كان متجدداً منذ الطفولية. وليس من الضرورة أن ينفرد يوحنا بذلك ولعلّ كثيرين من الأطفال جُددت قلوبهم قبل يوحنا وبعده. فيجب على الوالدين أنهم يرجون ذلك ويسألون الله إياه. فمن الخطإ الظن أن الأولاد الصغار لا يقبلون التأثيرات الروحية ولا يستفيدون من التعاليم الدينية. قال الله لإرميا النبي «قَبْلَمَا صَوَّرْتُكَ فِي ٱلْبَطْنِ عَرَفْتُكَ، وَقَبْلَمَا خَرَجْتَ مِنَ ٱلرَّحِمِ قَدَّسْتُكَ» (إرميا ١: ٥).
ويفيدنا أن نعرف الأحوال المقترنة بتجديد يوحنا منذ الطفولية وهي ثلاث الأولى أن والديه كانا تقيين مؤمنين والثانية أنه مُنح لهما إجابة لصلاتهما. والثالثة أنه كُرس لخدمة الله تعالى.
١٦ «وَيَرُدُّ كَثِيرِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى ٱلرَّبِّ إِلٰهِهِمْ».
(ملاخي ٤: ٥ و٦)
وَيَرُدُّ من نسيان الله والضلال والبرّ الذاتي والعالم والشهوات والشيطان. وثبت هذا النبأ بنجاح يوحنا في خدمته كما يتبين من الآيات الآتية (متّى ٣: ٥ و٦ ومرقس ١: ٥ ولوقا ٣: ٧ و١٠). وثبت أيضاً بشهادة يسوع له (متّى ١١: ٧ – ١٤) وخوف الفريسيين من الاستخفاف به قدام الشعب (متّى ٢١: ٢٥ و٢٦). ونال يوحنا المعمدان بما أتاه العظمة التي في قول دانيال «ٱلَّذِينَ رَدُّوا كَثِيرِينَ إِلَى ٱلْبِرِّ كَٱلْكَوَاكِبِ إِلَى أَبَدِ ٱلدُّهُورِ» (دانيال ١٢: ٣).
١٧ «وَيَتَقَدَّمُ أَمَامَهُ بِرُوحِ إِيلِيَّا وَقُوَّتِهِ، لِيَرُدَّ قُلُوبَ ٱلآبَاءِ إِلَى ٱلأَبْنَاءِ، وَٱلْعُصَاةَ إِلَى فِكْرِ ٱلأَبْرَارِ، لِكَيْ يُهَيِّئَ لِلرَّبِّ شَعْباً مُسْتَعِدّاً».
(ملاخي ٤: ٥ ومتّى ١١: ١٤ ومرقس ٩: ١٢)
يَتَقَدَّمُ أَمَامَهُ أي أمام الرب إلههم (ع ١٦) وهو المسيح الذي هو «ٱللّٰهُ ظَهَرَ فِي ٱلْجَسَدِ» (١تيموثاوس ٣: ١٦). و «يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ ٱللاَّهُوتِ جَسَدِيّاً» (كولوسي ٢: ٩). وهو «اَللّٰهُ مَعَنَا» (متّى ١: ٢٨). وقوله «يتقدّم أمامه» مجاز مبني على عادة الملوك قديماً وهي أنهم كانوا يرسلون أمامهم في أسفارهم من يهيء لهم الطريق وينبئ الناس بقدومه ليستعدوا لاستبقاله. والأصل مقتبس معنى من نبؤة (ملاخي ٤: ٥ و٦).
بِرُوحِ إِيلِيَّا وَقُوَّتِهِ (انظر الشرح متّى ١١: ١٤). هذا إنباء بأن يوحنا يتم غاية نبوءة ملاخي وتفسير أن المراد بإيليا فيها رجل يشبهه وهو يوحنا المعمدان. وكذا فسر المسيح تلك النبوءة. ووجه الشبه بين إيليا ويوحنا الغيرة والشجاعة وتوبيخ الخطأة من الشرفاء والأدنياء وهداية الضالين إلى سبل الحق.
لِيَرُدَّ قُلُوبَ ٱلآبَاءِ إِلَى ٱلأَبْنَاءِ مضمون هذه الآية كلها إصلاح عظيم في السيرة والسريرة. وأول أثمار هذا الإصلاح تحسين الألفة العائلية لأنه من أول ظواهر فساد الدين انقطاع رُبط الالتئام العائلي. وثانيها رد الوالدين إلى الاعتناء بنفوس الأولاد وهدايتهم إلى عبادة الله لأنه من علامات ذلك الفساد أن يهمل الوالدون الاعتناء بنفوس أولادهم ولا يعلّموهم مخافة الرب. ونتيجة ذلك رد قلوب الجميع والدين وأولاداً إلى الله سبحانه وتعالى.
وظن البعض أن الآباء المذكورين هنا هم إبراهيم وإسحاق ويعقوب وأن النبي شخّصهم كأنهم أحياء آسفون من ضلال أولادهم الإسرائيليين ولذلك أعرضوا عنهم وأنه للتغير العظيم الذي يحدث في قلوب الأولاد بتبشير يوحنا ترجع قلوب أولئك الآباء إليهم بالمحبة والرضى.
وَٱلْعُصَاةَ إِلَى فِكْرِ ٱلأَبْرَارِ معنى ذلك أن الذين تمردوا على الله وزاغوا عن الدين الحق يرجعون بمناداة يوحنا إلى الطاعة والقداسة والإيمان وذلك الرجوع هو الحكمة الحقيقية المشار إليها بقوله فكر الأبرار لأن «بَدْءُ ٱلْحِكْمَةِ مَخَافَةُ ٱلرَّبِّ» (أمثال ٩: ١٠). ولأن مسالك القداسة هي مسالك الحكمة الحقيقية وقول ملاخي أن يرد «قلب الأبناء على آبائهم» (ملاخي ٤: ٦). وذكر الملاك معنى هذه الجملة لا لفظها لأن رجوع الأبناء الضالين إلى إيمان آبائهم الأتقياء هو الحكمة الحقيقية (أي فكر الأبرار). والعصاة المشار إليهم هنا هم يهود عصر يوحنا المعمدان والمسيح. والمراد بالآباء هنا في إما الأتقياء ذلك العصر وإما الآباء الأولون الذين ذكرناهم آنفاً.
لِكَيْ يُهَيِّئَ لِلرَّبِّ شَعْباً مُسْتَعِدّاً هذه العبارة مبنية على ما قيل في (إشعياء ٤٣: ٢١). ومعناها بيان وظيفة يوحنا وهي أن يعد الناس لقبول المسيح في قلوبهم وذلك بإظهاره لهم خطاياهم واحتياجهم إلى مخلص. فنسبة خدمة يوحنا إلى خدمة المسيح كنسبة الناموس إلى الإنجيل فإنه دعا الناس إلى التوبة لكي يقبلوا المخلص الذي ينقذهم من خطاياهم. وأكمل يوحنا ما كان عليه مع أن النجاح لم يبلغ الكمال وقتئذ وإلى الآن لم يكمل في اليهود لكنه لا بد من أن يكمل بعد.
وما ذكره الملاك من صفات يوحنا يجب أن يكون لكل مبشر بالإنجيل وهو أن «يتقدّم أمام الرب» أي أن يبتهج بكونه رسولاً للمسيح ومبشراً بخلاصه وأن يرد قلوب الناس عن الخطيئة إلى الله. وأن يهيء شعباً من المؤمنين الحقيقيين المستعدين لأن يخدموا الرب على الأرض ثم أن يسبحوه في السماء.