1- «إِذْ كَانَ كَثِيرُونَ قَدْ أَخَذُوا بِتَأْلِيفِ قِصَّةٍ فِي ٱلأُمُورِ ٱلْمُتَيَقَّنَةِ عِنْدَنَا».
الآيات الأربع الأولى من هذا الأصحاح مقدمة للبشارة كلها وفيها بيان الغاية من كتابتها.
أ- كَثِيرُونَ قَدْ أَخَذُوا بِتَأْلِيفِ
الكثيرون هنا لم يكونوا شهود عين بل نقله عن غيرهم وعلى هذا لم يشر بهم إلى سائر البشيرين لأن متّى ويوحنا كانا شاهدي عين. ولم يشر إلى مرقس لأنه لم يقف على ما كتبه ولو وقف عليه ما خلت بشارته من بعض الحوادث التي ذكرها مرقس لكي يكتب بالتدقيق على التوالي كل الأشياء المتعلقة بيسوع. فالأرجح أن أولئك الكثيرين هم معلمو الإنجيل والمبشرون به الذين كتبوا أخباراً مختصرة مما سمعوه من الرسل وغيرهم من وقت إلى وقت. ولعلّ منهم بعض المؤمنين الذين كانوا يكتبون ما يبقى في حافظتهم من مواعظ الرسل ولم يصل إلينا شيء مما كتبه أولئك الكثيرون وعلّة ذلك أن الروح القدس اعتنى بحفظ البشائر الأربع دون غيرها مما كُتب في وقتها لأنها تشمل على كل الأمور الجوهرية ولأنها كُتبت بإلهامه.
ب- ٱلأُمُورِ ٱلْمُتَيَقَّنَةِ
هذا تعريف حسن لما في الإنجيل أي حوادث حياة المسيح فهي ليست من المظنونات بل من الواقعات المحقة التي اتفق كل المسيحيين على صحتها. وقد رتبت على طريق يسهل فيه إدراكها وذكرها والتعبير عنها. ويتبين من هذا أنه استفاد مما كتبه الكثيرون ومما سمعه من غيرهم وهذا هو المصدر الأول لما كتبه في إنجيله.
جـ – عِنْدَنَا نحن المسيحيين.
٢ «كَمَا سَلَّمَهَا إِلَيْنَا ٱلَّذِينَ كَانُوا مُنْذُ ٱلْبَدْءِ مُعَايِنِينَ وَخُدَّاماً لِلْكَلِمَةِ».
(عبرانيين ٢: ٣ و١بطرس ٥: ١ و٢بطرس ١: ١٦ و١يوحنا ١: ١، مرقس ١: ١ ويوحنا ١٥: ٢٧)
أ- سَلَّمَهَا إِلَيْنَا
أي أنبأنا بها شفاهاً لأنه كانت أكثر التعاليم في عصور الكنيسة الأولى باللسان لا بالقلم.
ب- كَانُوا مُنْذُ ٱلْبَدْءِ
أي من أول خدمة المسيح.
جـ – مُعَايِنِينَ وَخُدَّاماً لِلْكَلِمَةِ
شهادة هؤلاء هي المصدر الثاني الذي أخذ لوقا إنجيله منه وهم الرسل وغيرهم ممن شاهدوا يسوع وأعماله وسمعوا أقواله وبشروا بكلمته وبذلوا الجهد في خدمته.
٣ «رَأَيْتُ أَنَا أَيْضاً إِذْ قَدْ تَتَبَّعْتُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ ٱلأَوَّلِ بِتَدْقِيقٍ، أَنْ أَكْتُبَ عَلَى ٱلتَّوَالِي إِلَيْكَ أَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ ثَاوُفِيلُسُ».
أعمال ١: ١
أَنَا أَيْضاً حسب نفسه واحداً من الكثيرين الذين أخذوا في التأليف. وهذا دليل على أنه لم يتهمهم بالغلط ولم يستخف بما كتبوه بل أظهر قصده أن يكتب أكثر مما كتبوه ليكون النبأ كاملاً.
ويظهر مما كتب لوقا في هذه المقدمة أن وحي الروح القدس أو إلهامه بكتابة سفر من الأسفار الإلهية لا يجعل شهادة الناس غير نافعة وبلا قيمة ولا يرفع عن الكاتب المسؤولية باجتهاده في جمع الشهادات البشرية والتدقيق في التمييز بين صحيحها وفاسدها.
تَتَبَّعْتُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ ٱلأَوَّلِ بِتَدْقِيقٍ يتبين من هذا أن لوقا استفرغ المجهود في الحصول على كمال المعرفة بكل الحوادث المتعلقة بحياة المسيح الأرضية. وقوله «من الأول» يدل على أن ما كتبه الكثيرون كان ناقصاً لا يشتمل على سوى أجزاء صغيرة من سيرة المسيح وقصد هو أن يكتب الحوادث من أول حياته الأرضية إلى آخرها.
عَلَى ٱلتَّوَالِي لا يلزم من ذلك أن كل ما كُتب في إنجيل لوقا رُتب حسب وقت حدوثه فمعناه أنه قصد أن يكون تاريخه على الترتيب الذي عينه قبل أن يبتدئ الكتابة. فجمعه أحياناً الحوادث المتشابهة بقطع النظر عن أوقات حدوثها لا يخرجها من أن تكون على التوالي.
أَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ ثَاوُفِيلُسُ لم يعرف شيء من أمره على اليقين. واسمه يوناني لا يهودي والأرجح أنه من اليونان. ووصف لوقا ما يذكره من المواضع في اليهودية والجليل يدل على أن ثاوفيلس ليس من سكان فلسطين. وعدم وصفه ما يذكره من الأماكن الإيطالية يحمل على الظن أن ثاوفيلس من سكان إيطاليا. ويقوي القول بأنه ليس بيهودي تبيين لوقا له اعتقاد الصدوقيين (أعمال ٢٣: ٨). وتلقيبه إياه بالعزيز يدل على أنه من أرباب الرتب السياسية لأن ذلك مما كان يُلقب به الحكام كما لُقب به فيلكس الوالي (أعمال ٢٤: ٣). وكما لُقب به فستس الوالي (أعمال ٢٦: ٢٥) وهذا يدفع القول بأنه صورة خيالية أُريد بها كل مسيحي لأن معنى اسمه محب الله. والأرجح أنه ممن آمنوا بالمسيح من الأمم.
٤ «لِتَعْرِفَ صِحَّةَ ٱلْكَلاَمِ ٱلَّذِي عُلِّمْتَ بِهِ».
يوحنا ٢٠: ٣١
لِتَعْرِفَ صِحَّةَ ٱلْكَلاَمِ أي لتكون على ثقة مما كتبته إليك لعهدك أني صادق بحثت عن الأمور بالتدقيق.
ٱلَّذِي عُلِّمْتَ بِهِ هذا دليل على أن ثاوفيلس قد تعلّم قبل ذلك بعض ما علمه الناس من أمر المسيح. فأراد لوقا أن يحصل صاحبه هذا على كمال الخبر مما جمعه هو من مصادر مختلفة.
ولنا مما ذُكر في مقدمة هذه البشارة معرفة كيف أن الله يتخذ خدمة البشر لإعلان كلامه وهذا الكلام يشتمل على ما وعظ به الرسل شفاهاً وما أخبر به غيرهم من شهود العين وعلى ما كتبه البشيرون نقلاً عن المشاهدين ورتبوه على أسلوب حسن. وكل ذلك لا ينفي كون ما كتب موحى به من الروح القدس لأن الروح ألهم الرسل بما تكملوا وحفظ البشيرين من الغلط في كتابة ما سمعوه وشاهدوه. وذلك من جملة ما يقوي ثقتنا بالإنجيل وأنه لا ريب في اشتماله على جوهر سيرة المسيح وتعاليمه.