٤٤ «فَهُوَذَا حِينَ صَارَ صَوْتُ سَلاَمِكِ فِي أُذُنَيَّ ٱرْتَكَضَ ٱلْجَنِينُ بِٱبْتِهَاجٍ فِي بَطْنِي».
ذكرت ذلك علامة من الروح القدس حققت لها ما علمته في العدد السابق (أي أنّ مريم أم ربها). فروح النبوءة هو الذي قدرها على إدراك الغرض من تلك العلامة. ولا بد من أن في كلام أليصابات ما قوّى إيمان مريم وزادها ابتهاجاً.
٤٥ «فَطُوبَى لِلَّتِي آمَنَتْ أَنْ يَتِمَّ مَا قِيلَ لَـهَا مِنْ قِبَلِ ٱلرَّبِّ».
فَطُوبَى لِلَّتِي آمَنَتْ أي لمريم لأن علامات إيمانها وابتهاجها ظهرت على وجهها حتى تحققت أليصابات أنها واثقة بوعد الله وأنّها شريكة للمؤمنين في فوائد مواعيده تعالى.
ولعلّ في قولها هذا تلميحاً إلى الفرق بين إيمان مريم بوعد الله وعدم إيمان زوجها زكريا بما وعده تعالى حتى أُدّبَ. وكان إيمان مريم من أمثلة الإيمان الذي ذكره بولس «أَمَّا ٱلإِيمَانُ فَهُوَ ٱلثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى وَٱلإِيقَانُ بِأُمُورٍ لاَ تُرَى» (عبرانيين ١١: ١) وهي لم تلتفت إلى الموانع من إكمال الوعد بل نظرت إلى قوة الواعد. ولنا من ذلك أن الإيمان مصدر كل سعادة حقيقية. وهذا مثل قول المسيح لتوما «طُوبَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَرَوْا» (يوحنا ٢٠: ٢٩).
مَا قِيلَ لَـهَا مِنْ قِبَلِ ٱلرَّبِّ عرفت إليصابات من زوجها زكريا ما قاله الملاك له من أمر المسيح ولكن ما قيل لمريم لم تعرفه إلا بوحي الروح القدس.
٤٦ «فَقَالَتْ مَرْيَمُ: تُعَظِّمُ نَفْسِي ٱلرَّبَّ».
(١صموئيل ٢: ١ ومزمور ٣٤: ٢ و٣ و٣٥: ٩)
تسبيحة مريم من ع ٤٦ إلى ٥٦ شعر مقدس من أعلى مراتب الأشعار ويذكرنا بعض عباراتها كلام حنة في سفر صموئيل الأول ٢: ١ – ١١ وكلام داود في سفر صموئيل الثاني ٧: ١٨ – ٢١ وبعض جمل المزمور ٣١ والمزمور ١١٢ والمزمور ١٢٦. ولم يقل البشير أن روح الله حل على مريم حين سبّحت كما قيل أنه حل على أليصابات (ع ٤١) وعلى زكريا (ع ٦٧) ولكن لا ريب في أنه حل عليها ولكنه حل عليها طويلاً وحل عل أليصابات وقتاً قصيراً (ع ٣٥). ولا عجب من أن اقتبست مريم في تسبيحها كثيراً من آيات العهد القديم لأن أولاد اليهود الصبيان والصبايا كانوا يحفظون كثيراً من تلك الآيات على ظهور قلوبهم كقصيدة دبورة وقصيدة حنة ومزامير داود واعتادوا أن يترنموا بها في العبادة لله كل يوم عند تقديم ذبيحة الصباح وفي ذبيحة المساء وفي الاحتفالات السنوية أيضاً. وبداءة تسبيحة مريم التعظيم للرب لأنه هو علّة سرورها باختياره إياها واسطة مكرمة لإجراء مقاصده العظمى. ولم تقتصر على التسبيح لله بشفتيها بل اشتركت في ذلك نفسها أي قواها الباطنة. وقولها هنا مثل قول داود «أَبْتَهِجُ وَأَفْرَحُ بِرَحْمَتِكَ لأَنَّكَ نَظَرْتَ إِلَى مَذَلَّتِي» (مزمور ٣١: ٧).
٤٧ «وَتَبْتَهِجُ رُوحِي بِٱللّٰهِ مُخَلِّصِي».
رُوحِي أي كل قواي الباطنة. والروح هي التي تدرك ما لا يدرك بالحواس الظاهرة وهي التي تؤمن وترجو وتحب.
بِٱللّٰهِ مُخَلِّصِي الله مخلص لأنه يفدي شعبه من الخطيئة والموت ويعطيهم نصيباً في الحياة الأبدية. وفي قول مريم هنا إقرار بأنها محتاجة إلى مخلص وأنها نالت من الله الخلاص الذي هو أتى به لشعبه. فإذاً في قول مريم نفسها رد كاف على دعوة بعضهم أن مريم ليست كسائر البشر في الطبيعة. فإنها كانت كسائر المؤمنات في إسرائيل تتوقع الخلاص من الله وقد كُرر الوعد لها بذلك باسم المولود منها الذي هو يسوع أي مخلص (ع ٣١). فابتهجت بأن الله مخلص لها أكثر مما ابتهجت بأن يسوع مولود منها.
٤٨ «لأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى ٱتِّضَاعِ أَمَتِهِ. فَهُوَذَا مُنْذُ ٱلآنَ جَمِيعُ ٱلأَجْيَالِ تُطَوِّبُنِي».
(١صموئيل ١: ١ و١١ ومزمور ١٣٨: ٦، ملاخي ٣: ١٢ وص ١١: ٢٧)
نَظَرَ إِلَى ٱتِّضَاعِ أَمَتِهِ نظر الحنو بغية أن يرفعها من ذلها وأكرمها على حقارتها بين الناس بما أنعم به عليها فتيقنت أن ذلك تنازل ولطف من الله فأظهرت تواضعها بإقرارها أنها ليست مستحقة ذلك الإكرام.
جَمِيعُ ٱلأَجْيَالِ تُطَوِّبُنِي أي أن أهل كل عصر تقتدي بأليصابات في غبطتها لي. ومعنى قوله «تطوبني» تحسبني سعيدة. فمعنى مريم أنه كما أن النساء كلها في العصور الماضية قبلها كانت ترغب في أن يولد المسيح منها ستكون النساء بعدها في كل عصر حاسبة إياها سعيدة على ولادته منها. نعم إنّها حصلت على ما تنبأت لكن بقي غبطة أكثر من غبطتها بتلك الولادة وهي ما أبانها المسيح عندما قال له بعضهم «طوبى للبطن الذي حملك والثديين اللذين رضعتهما» بقوله «بل طوبى للذين يسمعون كلام الله ويحفظونه».
وعلمت مريم بروح النبوءة عظمة يسوع وأن تلك العظمة تدوم إلى الأبد وتيقنت أن اسمها يُذكر بين الناس باعتبار أنها مختارة أُماً للمسيح في الجسد.
نعم إنّ مريم كانت مغبوطة حقاً ولا تزال كذلك إلى الأبد لكنّ هذه الغبطة لا تجيز أن تكون مريم معبودة، فغبط إيراهيم بكونه أبا المؤمنين ويوحنا الرسول بأن كان التلميذ المحبوب وبطرس بكونه رسول اليهود وبولس بكونه رسول الأمم ولكنه لم يلزم مما ذكر أن يُعبدوا.